تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٥١
إلا ما كنتم تعملون) *. * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون) * وهذه القرية هي: مكة المشرفة، التي كانت آمنة مطمئنة، لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم، يجد فيها قاتل أبيه وأخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية فحصل لها في مكة، من الأمن التام، ما لم يحصل في سواها وكذلك الرزق الواسع. كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، لكن يسر الله لها الرزق، يأتيها من كل مكان. فجاءهم رسول منهم، يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه، وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله، ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع، الذي هو ضد الرغد، والخوف، الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم، وعدم شكرهم * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *. * (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم * ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ه ذا حلال وه ذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم * وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ول كن كانوا أنفسهم يظلمون) * يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم الله من الحيوانات، والحبوب، والثمار، وغيرها. * (حلالا طيبا) * أي: حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث لا تكون مما حرم الله، أو أثرا من غصب ونحوه. فتمتعوا بما خلق الله لكم، من غير إسراف، ولا تعد. * (واشكروا نعمة الله) * بالاعتراف بها، بالقلب، والثناء على الله بها، وصرفها في طاعة الله. * (إن كنتم إياه تعبدون) * أي: إن كنتم مخلصين له العبادة، فلا تشكروا إلا إياه، ولا تنسوا المنعم. * (إنما حرم عليكم) * الأشياء المضرة، تنزيها لكم. ومن ذلك: * (الميتة) * ويدخل في ذلك كل ما كان موته على غير ذكاة مشروعة. ويستثنى منه، ميتة الجراد والسمك. * (والدم) * المسفوح، وأما ما يبقى في العروق واللحم فلا يضر. * (ولحم الخنزير) * لقذارته وخبثه، وذلك شامل للحمه وشحمه، وجميع أجزائه. * (وما أهل لغير الله به) * كالذي يذبح للأصنام والقبور ونحوها، لأنه مقصود به الشرك. * (فمن اضطر) * إلى شيء من المحرمات بأن حملته الضرورة، وخاف إن لم يأكل أن يهلك فلا جناح عليه إذا كان * (غير باغ ولا عاد) *. أي: إذا لم يرد أكل المحرم، وهو غير مضطر، ولا متعد الحلال إلى الحرام، أو متجاوز لما زاد على قدر الضرروة. فهذا الذي حرمه الله من المباحات. * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * أي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم، كذبا، وافتراء على الله وتقولا عليه. * (لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا بد أن يظهر الله خزيهم، وإن تمتعوا في الدنيا، فإنه * (متاع قليل) * ومصيرهم إلى النار * (ولهم عذاب أليم) *. فالله تعالى ما حرم علينا إلا الخبيثات، تفضلا منه، وصيانة عن كل مستقذر. وأما الذين هادوا فحرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم عقوبة لهم، كما قصه في سورة الأنعام في قوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) *. * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * وهذا حض منه لعباده على التوبة، ودعوة لهم إلى الإنابة، فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة، بعاقبة ما تجنى عليه، ولو كان متعمدا للذنب، فإنه لا بد أن ينقص ما في قلبه من العلم، وقت مقارفة الذنب. فإذا تاب وأصلح، بأن ترك الذنب وندم عليه وأصلح أعماله، فإن الله يغفر له ويرحمه، ويتقبل توبته، ويعيده إلى حالته الأولى، أو أعلى منها. * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * يخبر تعالى عما فضل به خليله عليه الصلاة والسلام، وخصه به من الفضائل العالية والمناقب الكاملة فقال: * (إن إبراهيم كان أمة) * أي: إماما، جامعا لخصال الخير، هاديا مهتديا * (قانتا لله) * أي: مديما لطاعة ربه، مخلصا له الدين. * (حنيفا) * مقبلا على الله، بالمحبة، والإنابة، والعبودية، معرضا عمن سواه. * (ولم يك من المشركين) * في قوله وعمله، وجميع أحواله، لأنه إمام الموحدين الحنفاء. * (شاكرا لأنعمه) * أي: آتاه الله في الدنيا حسنة، وأنعم عليه بنعم ظاهرة
(٤٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 446 447 448 449 450 451 452 453 454 455 456 ... » »»