أولها، أصول النعم وقواعدها، وفي آخرها، متمماتها ومكملاتها، فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق، ليستدل بهما العباد على عظمة خالقهما، وما له من نعوت الكمال، ويعلموا أنه خلقهما سكنا لعباده الذين يعبدونه، بما يأمرهم به، في الشرائع التي أنزلها على ألسنة رسله، ولهذا نزه نفسه عن شرك المشركين به فقال: * (تعالى عما يشركون) * أي: تنزه وتعاظم عن شركهم، فإنه الإله حقا، الذي لا تنبغي العبادة، والحب، والذل، إلا له تعالى، ولما ذكر خلق السماوات والأرض، ذكر خلق ما فيهما. وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال: * (خلق الإنسان من نطفة) * لم يزل يدبرها، ويربيها، وينميها، حتى صارت بشرا تاما، كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، قد غمره بنعمه الغزيرة، حتى إذا استتم، فخر بنفسه وأعجب بها * (فإذا هو خصيم مبين) *، يحتمل أن المراد: فإذا هو خصيم لربه، يكفر به، ويجادل رسله، ويكذب بآياته. ونسي خلقه الأول، وما أنعم الله عليه به، من النعم، فاستعان بها على معاصيه، ويحتمل أن المعنى: أن الله أنشأ الآدمي من نطفة، ثم لم يزل ينقله من طور إلى طور، حتى صار عاقلا متكلما، ذا ذهن ورأي، يخاصم ويجادل، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال، التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها. * (والأنعام خلقها لكم) * أي: لأجلكم، ولأجل منافعكم ومصالحكم، ومن جملة منافعها العظيمة * (لكم فيها دفء) * مما تتخذون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها، وجلودها، من الثياب، والفرش، والبيوت. * (و) * لكم فيها * (منافع) * غير ذلك * (ومنها تأكلون) *، * (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) * أي: في وقت رواحها وسكونها، ووقت حركتها وسرحها، وذلك أن جمالها، لا يعود إليها منه شيء، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها، بثيابكم، وأولادكم، وأموالكم، وتعجبون بذلك، * (وتحمل أثقالكم) * من الأحمال الثقيلة، بل وتحملكم أنتم * (إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) * ولكن الله ذللها لكم. فمنها ما تركبونه، ومنها ما تحملون عليه ما تشاؤون، من الأثقال، إلى البلدان البعيدة، والأقطار الشاسعة، * (إن ربكم لرؤوف رحيم) * إنه سخر لكم ما تضطرون إليه وتحتاجونه، فله الحمد، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وسعة جوده وبره. * (والخيل والبغال والحمير) * سخرناها لكم * (لتركبوها وزينة) *، أي: تارة تستعملونها للضرورة في الركوب، وتارة لأجل الجمال والزينة، ولم يذكر الأكل، لأن البغال والحمير، محرم أكلها، والخيل لا تستعمل في الغالب للأكل، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل، خوفا من انقطاعها، وإلا فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن في لحوم الخيل. * (ويخلق ما لا تعلمون) * مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر، والبحر، والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم فإنه لم يذكرها بأعيانها، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه، إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره. وأما ما ليس له نظير في زمانهم، فإنه لو ذكر لم يعرفوه، ولم يفهموا المراد به. فيذكر أصلا جامعا، يدخل فيه ما يعلمون، وما لا يعلمون. كما ذكر نعيم الجنة، سمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره، كالنخل والأعناب والرمان، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله: * (فيهما من كل فاكهة زوجان) *. فكذلك هنا، ذكر ما نعرفه، من المراكب، كالخيل، والبغال، والحمير، والإبل، والسفن، وأجمل الباقي في قوله: * (ويخلق ما لا تعلمون) *، ولما ذكر تعالى، الطريق الحسنى، وأن الله قد جعل للعباد ما يقطعونه به من الإبل وغيرها، ذكر الطريق المعنوي الموصل إليه فقال: * (وعلى الله قصد السبيل) * أي: الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق وأخصرها، موصل إلى الله، وإلى كرامته. وأما الطريق الجائر في عقائده وأعماله، وهو: كل ما خالف الصراط المستقيم، فهو قاطع عن الله، موصل إلى دار الشقاء، فسلك المهتدون الصراط المستقيم بإذن ربهم، وضل الغاوون عنه، وسلكوا الطرق الجائرة، * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * ولكنه هدى بعضا، كرما وفضلا، ولم يهد آخرين، حكمة منه وعدلا. * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * ينبه الله تعالى بهذه الآية الإنسان على عظمة قدرته وحثهم على التفكير حيث ختمها بقوله: * (لقوم يتفكرون) * على كمال قدرة الله، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف، ورحمته، حيث جعل فيه ماء
(٤٣٦)