الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) *. بل تكون حقيرا عند الله ومحتقرا عند الخلق، مبغوضا ممقوتا، قد اكتسبت شر الأخلاق، واكتسيت بأرذلها، من غير إدراك لبعض ما تروم. * (كل ذلك) * المذكور الذي نهى الله عنه فيما تقدم من قوله: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) * والنهي عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك * (كان سيئه عند ربك مكروها) * أي: كل ذلك يسوء العاملين ويضرهم، والله تعالى يكرهه ويأباه. * (ذلك) * الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة، * (مما أوحى إليك ربك من الحكمة) * فإن الحكمة، الأمر بمحاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق، والنهي عن أراذل الأخلاق، وأسوإ الأعمال. وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات، من الحكمة العالية، التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين، في أشرف الكتب، ليأمر بها أفضل الأمم، فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله، كما افتتحها بذلك فقال: * (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم) * أي: خالدا مخلدا، فإنه من يشرك بالله، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. * (ملوما مدحورا) * أي: قد لحقتك اللائمة، واللعنة، والذم من الله، وملائكته، والناس أجمعين. * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) * وهذا إنكار شديد، على من زعم أن الله اتخذ من خلقه بنات فقال: * (أفأصفاكم ربكم بالبنين) * أي: اختار لكم الصفوة والنصيب الكامل، واتخذ لنفسه من الملائكة إناثا، حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. * (إنكم لتقولون قولا عظيما) * فيه أعظم الجرأة على الله، حيث نسبتم له الولد المتضمن لحاجته، واستغناء بعض المخلوقات عنه، وحكمتم له بأردأ القسمين، وهو الإناث، وهو الذي خلقكم، واصطفاكم بالذكور، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. * (ولقد صرفنا في ه ذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا * قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا * سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ول كن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) * يخبر تعالى، أنه صرف لعباده، في هذا القرآن، أي نوع الأحكام، ووضحها، وأكثر من الأدلة والبراهين، على ما دعا إليه، ووعظ وذكر، لأجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه، وما يضرهم فيدعوه. ولكن أبى أكثر الناس، إلا نفورا عن آيات الله، لبغضهم للحق، ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل، حتى تعصبوا لباطلهم، ولم يعيروا آيات الله لهم سمعا، ولا ألقوا لها بالا. ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة، التوحيد الذي هو أصل الأصول. فأمر به، ونهى عن ضده، وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية، شيئا كثيرا، بحيث أن من أصغى إلى بعضها، لا تدع في قلبه، شكا ولا ريبا. ومن الأدلة على ذلك، هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال: * (قل) * للمشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر: * (لو كان معه آلهة كما يقولون) * أي: على موجب زعمهم وافترائهم * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * أي: لاتخذوا سبيلا إلى الله بعبادته، والإنابة إليه والتقرب وابتغاء الوسيلة. فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه، إلها مع الله؟ هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟ فعلى هذا المعنى، تكون هذه الآية كقوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) *. وكقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) *. ويحتمل أن المعنى في قوله: * (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * أي: وسعوا في مغالبة الله تعالى. فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر، هو الرب الإله. فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم، التي يدعون من دون الله مقهورة مغلوبة، ليس لها من الأمر شيء، فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) *. * (سبحانه وتعالى) * أي: تقدس وتنزه وعلت أوصافه * (عما يقولون) * من الشرك به، واتخاذ الأنداد معه * (علوا كبيرا) * فعلا قدره، وعظم، وجلت كبرياؤه، التي لا تقادر أن
(٤٥٨)