تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٨١
وافتراؤكم علينا، صادا لنا عما كنا عليه. وإنما غايته، أن يكون صادا لكم أنتم، وموجبا لعدم انقيادكم للحق، تزعمون أنه باطل، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية، فلا نقدر على إكراهكم على ما أمر الله، ولا إلزامكم ما نفرتم عنه، ولهذا قال: * (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) *. * (ويا قوم لا أسألكم عليه) * أي: على دعوتي إياكم * (مالا) * فتستثقلون المغرم. * (إن أجري إلا على الله) *، وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء، فقال لهم: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * أي: ما ينبغي لي، ولا يليق ذلك، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام، والإعزاز والإعظام * (أنهم ملاقو ربهم) * فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم. * (ولكني أراكم قوما تجهلون) * حيث تأمرونني بطرد أولياء الله، وإبعادهم عني، وحيث رددتم الحق، لأنهم أتباعه، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل. * (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) * أي: من يمنعني من عذابه، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال الذي لا يمنعه من دون الله مانع. * (أفلا تذكرون) * ما هو الأنفع لكم والأصلح، وتدبرون الأمور. * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) * أي: غايتي أني رسول الله إليكم، أبشركم، وأنذركم، وما عدا ذلك، فليس بيدي من الأمر شيء، فليست خزائن الله عندي، أدبرها أنا، وأعطي من أشاء، وأحرم من أشاء، * (ولا أعلم الغيب) * فأخبركم بسرائركم وبواطنكم * (ولا أقول إني ملك) *. والمعنى: أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي، ولا منزلة سوى المنزلة التي أنزلني الله بها، ولا أحكم على الناس بظني. * (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) * أي: الضعفاء المؤمنين الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا * (لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم) *، فإن كانوا صادقين في إيمانهم فلهم الخير الكثير، وإن كانوا غير ذلك، فحسابهم على الله. * (إني إذا) * أي: إن قلت لكم شيئا مما تقدم * (لمن الظالمين) *، وهذا تأييس منه عليه الصلاة والسلام لقومه، أن ينبذ فقراء المؤمنين، أو يمقتهم، وإقناع لقومه، بالطرق المقنعة للمنصف. فلما رأوه، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم، ولم يدركوا منه مطلوبهم * (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) *، فما أجهلهم وأضلهم، حيث قالوا هذه المقالة لنبيهم الناصح. فهلا قالوا إن كانوا صادقين: يا نوح قد نصحتنا، وأشفقت علينا، ودعوتنا إلى أمر لم يتبين لنا فنريد منك أن تبينه لنا للننقاد لك، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف، للذي قد دعا إلى أمر خفي عليه، ولكنهم في قولهم كاذبون، وعلى نبيهم متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة، فضلا عن أن يردوه بحجة. ولهذا عدلوا من جهلهم وظلمهم إلى الاستعجال بالعذاب، وتعجيز الله، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله: * (إنما يأتيكم به الله إن شاء) * أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم، فعل ذلك. * (وما أنتم بمعجزين) * لله، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء. * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) *، أي: إن إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم، لردكم الحق، فلو حرصت غاية مجهودي، ونصحت لكم أتم النصح وهو قد فعل عليه السلام فليس ذلك بنافع لكم شيئا، و * (هو ربكم) * يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم ما يريد * (وإليه ترجعون) * فيجازيكم بأعمالكم. * (أم يقولون افتراه) * هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح كما كان السياق في قصته مع قومه، وأن المعنى أن قومه يقولون: افترى على الله كذبا، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله، وأن الله أمره أن يقول: * (قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون) * أي: كل عليه وزره * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) *. ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الآية معترضة في أثناء قصة نوح وقومه، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء، فلما شرع الله في قصها على رسوله، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته، ذكر تكذيب قومه مع البيان التام فقال: * (أم يقولون افتراه) * أي: هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه، أي: فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله. فإن زعموا مع هذا أنه افتراه، علم أنهم معاندون، ولم يبق فائدة في حجاجهم، بل اللائق في هذه الحال، الإعراض عنهم، ولهذا قال: * (قل إن افتريته فعلي إجرامي) * أي: ذنبي
(٣٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 376 377 378 379 380 381 382 383 384 385 386 ... » »»