تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٧٧
حاجبة لعلم الله، بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم. قال تعالى مبينا خطأهم في هذا الظن * (ألا حين يستغشون ثيابهم) * أي يتغطون بها، يعلمهم في تلك الحال، التي هي من أخفى الأشياء. بل * (يعلم ما يسرون) * من الأقوال والأفعال * (وما يعلنون) * منها، بل ما هو أبلغ من ذلك وهو * (إنه عليم بذات الصدور) * أي: بما فيها من الإرادات، والوساوس، والأفكار، التي لم ينطقوا بها، سرا ولا جهرا، فكيف تخفى عليه حالكم، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه. ويحتمل أن المعنى في هذا، أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول، الغافلين عن دعوته، أنهم من شدة إعراضهم يثنون صدورهم، أي: يحدودبون، حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم، ويسمعهم دعوته، ويعظهم بما ينفعهم، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟ ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم، وأنهم لا يخفون عليه، وسيجازيهم بصنيعهم. * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) * أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، وحيوان، بري أو بحري، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقهم على الله. * (ويعلم مستقرها ومستودعها) * أي: يعلم مستقر هذه الدواب، وهو: المكان الذي تقيم فيه، وتستقر فيه، وتأوي إليه، ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وعوارض أحوالها. * (كل) * من تفاصيل أحوالها * (في كتاب مبين) * أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة، والتي تقع في السماوات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه. فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علما بذواتها، وصفاتها. * (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن ه ذآ إلا سحر مبين * ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) * يخبر تعالى أنه * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * أولها: يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. * (و) * حين خلق السماوات والأرض * (كان عرشه على الماء) * فوق السماء السابعة. فبعد أن خلق السماوات والأرض، استوى على عرشه، يدبر الأمور، ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية. ولهذا قال: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * أي: ليمتحنكم، إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض، بأمره ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملا. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أي (أخلصه وأصوبه). قيل يا أبا علي: (ما أخلصه وأصوبه)؟. فقال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل. وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة. وهذا كما قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *. وقال تعالى: * (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) *. فالله تعالى خلق الخلق لعبادته، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك. فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم. ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء، فقال: * (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) *. أي: ولئن قلت لهؤلاء، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت، لم يصدقوك، بل كذبوك أشد التكذيب، وقدحوا فيما جئت به، وقالوا: * (إن هذا إلا سحر مبين) * ألا وهو الحق المبين. * (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) * أي: إلى وقت مقدر فاستبطأوه، لقالوا من جهلهم وظلمهم * (ما يحبسه) *. ومضمون هذا، تكذيبهم به، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا، على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب، فما أبعد هذا الاستدلال * (ألا يوم يأتيهم العذاب ليس مصروفا عنهم) * فيتمكنون من النظر في أمرهم. * (وحاق بهم) * أي: أحاط بهم ونزل * (ما كانوا
(٣٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 372 373 374 375 376 377 378 379 380 381 382 ... » »»