تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٧٠
من نهار. فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده، ولا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه. وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته، ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا، أنتم وشركاؤكم، ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي، إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك. فعلم أنه الصادق حقا، وهم الكاذبون فيما يوعدون، ولهذا قال: * (فإن توليتم) * عن ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم، لا تولون عن باطل إلى حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته إلى باطل قامت الأدلة على فساده. ومع هذا * (فما سألتكم من أجر) * على دعوتي، وعلى إجابتكم فتقولوا: هذا جاءنا، ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك. * (إن أجري إلا على الله) * أي: لا أريد الثواب والجزاء، إلا منه. * (و) * أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل * (أمرت أن أكون من المسلمين) * فأنا أول داخل، وأول فاعل، لما أمرتكم به. * (فكذبوه) * بعدما دعاهم ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا، * (فنجيناه ومن معه في الفلك) * الذي أمرناه أن يصنعه بأعيينا، وقلنا له إذا فار التنور: * (فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن) * ففعل ذلك. فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر: * (وحملناه على ذات ألواح ودسر) * تجري بأعيننا، * (وجعلناهم خلائف) * في الأرض، بعد إهلاك المكذبين. ثم بارك الله في ذريته، وجعل ذريته هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، * (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) * بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان. * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * وهو: الهلاك المخزي، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا قدحا وذما. فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين، من الهلاك، والخزي والنكال. * (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) * أي: * (ثم بعثنا من بعده) * أي: من بعد نوح عليه السلام * (رسلا إلى قومهم) * المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى. * (فجاءوهم بالبينات) * أي: كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به. * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) * يعني: أن الله تعالى عاقبهم، حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، فطبع الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما قال تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *. ولهذا قال هنا: * (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) * أي: نختم عليها، فلا يدخلها خير. وما ظلمهم الله، ولكنهم ظلموا أنفسهم، بردهم الحق، لما جاءهم، وتكذيبهم الأول. * (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن ه ذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر ه ذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبريآء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون * فمآ آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين * وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين * وقال موسى ربنآ إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إل ه إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون * ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * أي: * (ثم بعثنا من بعدهم) * أي: من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين. * (موسى) * بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة. * (و) * وجعلنا معه أخاه * (هارون) * وزيرا وبعثناهما * (إلى فرعون وملإه) * أي: كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء. * (بآياتنا) * الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، * (فاستكبروا) * عنها، ظلما وعلوا، بعدما استيقنوها. * (وكانوا قوما مجرمين) * أي: وصفهم الإجرام والتكذيب. * (فلما جاءهم الحق من عندنا) * الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم. فلما جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و * (قالوا إن هذا لسحر مبين) * لم يكفهم قبحهم الله إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرا مبينا، ظاهرا، وهو الحق
(٣٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 ... » »»