فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى. وفي هذه الحال، أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون إماما في الدين، إذ جعل عمله خالصا لرب العالمين. * (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) * أي: وما كان الله ليهلك القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون، أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه. فما كان الله ليهلكهم إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله. ويحتمل أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم. فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم. * (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره. * (إلا من رحم ربك) * فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم. وقوله: * (ولذلك خلقهم) * أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله، وحكمته، وليظهر ما كمن من الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. * (و) * لأنه * (تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * فلا بد أن ييسر للنار أهلا، يعملون بأعمالها الموصلة إليها. * (وك لا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك في ه ذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) * لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء، ما ذكر، ذكر الحكمة في ذكر ذلك فقال: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * أي، قلبك ليطمئن، ويثبت، وتصبر، كما صبر أولو العزم من الرسل. فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها، ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به. * (وجاءك في هذه) * السورة * (الحق) * اليقين، فلا شك فيه بوجه من الوجوه، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس. * (وموعظة وذكرى للمؤمنين) * أي: يتعظون به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله، فيفعلونها. وأما من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير، ولهذا قال: * (وقل للذين لا يؤمنون) * بعدما قامت عليهم الآيات، * (اعملوا على مكانتكم) * أي: حالتكم التي أنتم عليها * (إنا عاملون) * على ما كنا عليه * (وانتظروا) * ما يحل بنا * (إنا منتظرون) * ما يحل بكم. وقد فصل الله بين الفريقين، وأرى عباده نصره لعباده المؤمنين، وقمعه لأعداء الله المكذبين. * (ولله غيب السماوات والأرض) * أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية. * (وإليه يرجع الأمر كله) * من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب. * (فاعبده وتوكل عليه) * أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه، وتوكل على الله في ذلك. * (وما ربك بغافل عما تعملون) * من الخير والشر، بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه، وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه. تم تفسير سورة هود والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت 21 من شهر ربيع الآخر سنة 1347.
(٣٩٢)