تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٨٠
عبدة وتفكر، فيما ينفعهم، وإنما هم كالصم والبكم، الذين لا يعقلون. * (أولئك الذين خسروا أنفسهم) * حيث فوتوها أعظم الثواب، واستحقوا أشد العطاب. * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه، ولم تغن عنهم آلهتهم التي يعبدون من دون الله، لما جاء أمر ربك. * (لا جرم) * أي: حقا وصدقا * (أنهم في الآخرة هم الأخسرون) *. حصر الخسار فيهم، بل جعل لهم منه أشده، لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب، فنستجير بالله من حالهم. ولما ذكر حال الأشقياء، ذكر أوصاف السعداء، وما لهم عند الله من الثواب، فقال: * (إن الذين آمنوا) * إلى قوله: * (أفلا تذكرون) *. * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أول ئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) * يقول تعالى * (إن الذين آمنوا) * بقلوبهم، أي: صدقوا واعترفوا، لما أمر الله بالإيمان به، من أصول الدين وقواعده. * (وعملوا الصالحات) * المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان. * (وأخبتوا إلى ربهم) * أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه. * (أولئك) * الذين جمعوا تلك الصفات * (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه، ولا خيرا، إلا سبقوا إليه. * (مثل الفريقين) * أي: فريق الأشقياء، وفريق السعداء، * (كالأعمى والأصم) * هؤلاء الأشقياء، * (والبصير والسميع) * مثل السعداء. * (هل يستويان مثلا) * لا يستويون مثلا، بل بينهما من الفرق ما لا يأتي عليه الوصف، * (أفلا تذكرون) * الأعمال التي تنفعكم. فتفعلونها، والأعمال التي تضركم، فتتركونها. * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ول كني أراكم قوما تجهلون * ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ومآ أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون * وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ومآ آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يبني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يأرض ابلعي مآءك ويسمآء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال ينوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ي ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل ينوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل ه ذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) * أي: * (ولقد أرسلنا نوحا) * أول المرسلين * (إلى قومه) * يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال: * (إني لكم نذير مبين) * أي: بينت لكم ما أنذرتكم به، بيانا زال به الإشكال. * (أن لا تعبدوا إلا الله) * أي: أخلصوا العبادة لله وحده، واتركوا كل ما يعبد من دون الله * (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) * إن لم تقوموا بتوحيد الله، وتطيعوني. * (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) * أي: الأشراف والرؤساء، رادين لدعوة نوح عليه السلام، كما جرت العادة لأمثالهم، أنهم أول من رد دعوة المرسلين. * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب الذي لا ينبغي غيره، لأن البشر يتمكن البشر أن يتلقوا عنه، ويراجعوه في كل أمر، بخلاف الملائكة. * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) * أي: ما نرى اتبعك منا، إلا الأراذل والسفلة بزعمهم. وهم في الحقيقة الأشراف، وأهل العقول، الذين انقادوا للحق، ولم يكونوا كالأراذل، الذين يقال لهم الملأ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد، اتخذوا آلهة من الحجر والشجر، يتقربون إليها ويسجدون، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس؟ وقولهم: * (بادي الرأي) * أي: إنما اتبعوك من غير تفكر وروية، بل بمجرد ما دعوتهم، اتبعوك، يعنون بذلك أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم، ولم يعلموا أن الحق المبين، تدعو إليه بداهة العقول، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب، يعرفونه ويتحققونه، لا كالأمور الخفية التي تحتاج إلى تأمل، وفكر طويل. * (وما نرى لكم علينا من فضل) * أي: لستم أفضل منا فننقاد لكم، * (بل نظنكم كاذبين) * وكذبوا في قولهم هذا، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه. ولهذا * (قال) * لهم نوح مجاوبا * (يا قوم إن كنت على بينة من ربي) * أي: على يقين وجزم، يعني وهو الرسول الكامل القدوة، الذي ينقاد له أولو الألباب، وتضمحل في جنب عقله، عقول الفحول من الرجال، وهو الصادق حقا، فإذا قال: إني على بينة من ربي، فحسبك بهذا القول، شهادة له وتصديقا. * (وآتاني رحمة من عنده) * أي: أوحى إلي وأرسلني، ومن علي بالهداية، * (فعميت عليكم) * أي: خفيت عليكم، وبها تثاقلتم. * (أنلزمكموها) * أي: أنكرهكم على ما تحققناه، وشككتم أنتم فيه؟ * (وأنتم لها كارهون) * حتى حرصتم على رد ما جئت به، ليس ذلك ضارنا، وليس بقادح من يقيننا فيه، ولا قولكم،
(٣٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 375 376 377 378 379 380 381 382 383 384 385 ... » »»