لغافلون) * فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها. وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل. * (ولقد بوأنا لبني إسرائيل مبوأ صدق) * أي: أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون، وأورثهم أرضهم وديارهم. * (ورزقناهم من الطيبات) * من المطاعم والمشارب وغيرهما * (فما اختلفوا) * (في الحق) * (حتى جاءهم العلم) * الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير. * (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * بحكمة العدل الناشئ على علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح. وهو: أن الشيطان إذا أعجزه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين. وإلا فإذا كان ربهم واحدا، ورسولهم واحدا، ودينهم واحدا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافا، يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم بسبب ذلك ما يموت؟ فنسألك اللهم لطفا بعبادك المؤمنين، جمع شملهم ورأب صدعهم، ورد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام. * (فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) * يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) * هل هو صحيح أم غير صحيح؟ * (فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) * أي: اسأل أهل الكتاب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم. فإن قيل: إن كثيرا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم، كذبوا رسول الله، وعاندوه، وردوا عليه دعوته. والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانا على صدقه، فكيف يكون ذلك؟ فالجواب عن هذا من عدة أوجه: منها: أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم. وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم، فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، ك (عبد الله بن سلام) وأصحابه، وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ومن بعدهم. ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم، مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه. فإذا كان موجودا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول. ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وظهر ذلك وأعلنه على رؤوس الاشهاد. ومن المعلوم أن كثيرا منهم، من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه، وأظهروه وبينوه. فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه. ومنها: أنه ليس أكثر أهل الكتاب رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاذ طوعا واختيارا، فإن الرسول بعث، وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل الكتاب. فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى إنقاذ للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، فلم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسما لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم،
(٣٧٣)