أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل. وإنما انتسبوا للدين المسيحي ترويجا لملكهم، وتمويها لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة. وقوله: * (لقد جاءك الحق) * أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه * (من ربك فلا تكونن من الممترين) * كقوله تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك فلا يكن في صدرك حرج منه) *. * (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) *، وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء منه. وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار وهو: عدم الربح أصلا، وذلك بفوات الثواب، في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه علما وعملا. فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار. * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) * يقول تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك) * أي: إنهم من الضالين الغاوين أهل النار، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه، فلا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا، وغيا إلى غيهم. وما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق لما جاءهم أول مرة، فعاقبهم الله بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم، وأبصارهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الذي وعدوا به. فحينئذ يعلمون حق اليقين، أن ما هم عليه هو الضلال، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئا، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا هم يستعتبون، وأما الآيات، فإنها تنفع من له قلب، أو ألقي السمع وهو شهيد. * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) * يقول تعالى: * (فلولا كانت قرية) * من قرى المكذبين * (آمنت) * حين رأت العذاب * (فنفعها إيمانها) * أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه، حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبا، لما قال: * (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) * فقيل له: * (الآن وعد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *. وكما قال تعالى: * (فلما جاءهم بأسنا قالوا آمنا بالله وحده، وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده) *. وكما قال تعالى: * (فلما جاءهم بأسنا قالوا آمنا بالله وحده، وكفرنا بما كنا من مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا العذاب، سنة الله التي قد خلت في عباده) *. وقال تعالى: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا) *. والحكمة في هذا ظاهرة، فإن الإيمان الاضطراري، ليس بإيمان حقيقة، ولو صرف عنه العذاب، والأمر الذي اضطره إلى الإيمان، لرجع إلى الكفران. وقوله: * (إلا قوم يونس لما آمنوا) * بعدما رأوا العذاب، * (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) * فهم مستثنون من العموم السابق. ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة، لم تصل إلينا، ولم تدركها أفهامنا. قال الله تعالى: * (وإن يونس لمن المرسلين) * إلى قوله: * (فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين) *، ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وأما قوم يونس، فإن الله أعلم أن إيمانهم سيستمر، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه، والله أعلم. * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) * بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى، فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته، أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين. * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله على شيء من ذلك. * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * بإرادته ومشيئته، وإذنه القدري الشرعي، فمن كان من الخلق قابلا لذلك، ويزكو عنده الإيمان، وفقه وهداه. * (ويجعل الرجس) * أي: الشر والضلال * (على الذين لا يعقلون) * عن الله أوامره ونواهيه، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه. * (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين * ثم ننجي رسلنا والذين
(٣٧٤)