تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٧١
المبين. ولهذا * (قال) * لهم * (موسى) * موبخا لهم عن ردهم الحق الذي لا يرده إلا أظلم الناس: * (أتقولون للحق لما جاءكم) * أي: أتقولون إنه سحر مبين. * (أسحر هذا) * أي: فانظروا وصفه، وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق. * (ولا يفلح الساحرون) * لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون العاقبة، ومن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك، وظهر لكل أحد، أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة. * (قالوا) * لموسى رادين لقوله بما لا يرد به: * (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) * أي: أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك، وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين، حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام. وقوله: * (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) * أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أراضينا. وهذا تمويه منهم، وترويح على جهالهم، وتهييج لعوامهم، على معاداة موسى، وعدم الإيمان به. وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين. وأما من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء به خصمه، لأنه لو كان له حجة، لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقا في قوله وإخباره عن قصد خصمه أم كاذبا. مع أن موسى عليه الصلاة والسلام، كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض. وإنما قصده، كقصد إخوانه المرسلين. هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم. ولكن حقيقة الأمر، كما نطقوا به بقولهم: * (وما نحن لكما بمؤمنين) * أي: تكبرا وعنادا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون. * (وقال فرعون) * معارضا للحق الذي جاء به موسى، ومغالبا لملاءه وقومه: * (ائتوني بكل ساحر عليم) * أي: ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم. * (* (فلما جاء السحرة) * لمغالبة موسى * (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) * أي: أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئا. وذلك لأنه جازم بغلبته، غر مبال بهم، وبما جاءوا به. * (فلما ألقوا) * حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، * (قال موسى ما جئتم به السحر) * أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته * (إن الله سيبطله، أن الله لا يصلح عمل المفسدين) *. فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟ وهكذا كل مفسد، عمل عملا، واحتال كيدا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله رواج في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق. وأما المصلحون، الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم. * (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) * فأذعن السحرة، حين تبين لهم الحق، فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم. وأما فرعون وملأه، وأتباعهم، فلم يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون. ولهذا قال: * (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) * أي: شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان. * (على خوف من فرعون وملإهم أن يفتنهم) * عن دينهم * (وأن فرعون لعال في الأرض) * أي: له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته. * (و) * خصوصا * (إنه) * (كان) * (لمن المسرفين) * أي: المتجاوزين للحد في البغي والعدوان. والحكمة والله أعلم بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة أبعد عن الحق من غيرهم. * (وقال موسى) * موصيا لقومه بالصبر، ومذكرا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: * (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله) * فقوموا بوظيفة
(٣٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 366 367 368 369 370 371 372 373 374 375 376 ... » »»