تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٦٣
يفترون) * يقول تعالى: * (ويوم نحشرهم جميعا) * أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم، ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله. * (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) * أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم. * (فزيلنا بينهم) * أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي، فحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا، خالص المحبة، وصفو الوداد، فانقلبت تلك المحبة والولاية، بغضا وعداوة. * (وقال شركاؤهم) * متبرئين منهم: * (ما كنتم إيانا تعبدون) * فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد. * (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) *، ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان، كما قال تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) * (وقال) * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) *. فالملائكة الكرام، والأنبياء، والأولياء ونحوهم: يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك. فحينئذ يتحسر المشركون حسرة، لا يمكن وصفها، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال، وما أسلفوا من رديء الخصال، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين، وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم، واضمحلت معبوداتهم، وتقطعت بهم الأسباب والوسائل. ولهذا قال: * (هنالك) * أي: في ذلك اليوم * (تبلو كل نفس ما أسلفت) * أي: تتفقد أعمالها وكسبها، وتتبعه بالجزاء، وتجازى بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. * (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) * من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك، وأن ما يعبدون من دون الله، تنفعهم وتدفع عنهم العذاب. * (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) * أي: قل لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانا محتجا عليهم بما أقروا به، من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية * (قل من يرزقكم من السماء والأرض) * بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟ * (أم من يملك السمع والأبصار) * أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟ وخصهما بالذكر، من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما. * (ومن يخرج الحي من الميت) * كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك. * (ويخرج الميت من الحي) * عكس هذه المذكورات. * (ومن يدبر الأمر) * في العالم العلوي والسفلي، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية، فإنك إذا سألتهم عن ذلك * (فسيقولون الله) * لأنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات. * (فقل) * لهم إلزاما بالحجة * (أفلا تتقون) * الله فتخلصون له العبادة، وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدونه من دونه من الأنداد والأوثان. * (فذلكم) * الذي وصف نفسه بما وصفها به * (الله ربكم) * أي: المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو: * (الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) *. فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء، الذي ما بالعباد من نعمة، إلا منه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع اليسئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام. * (فأنى تصرفون) * عن عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة ولا نشورا. فليس له من الملك مثقال ذرة، ولا شركة له بوجه من الوجوه، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه. فتبا لمن أشرك به، وويحا لمن كفر به، لقد عدموا عقولهم بعد أن عدموا أديانهم، بل فقدوا دنياهم وأخراهم. ولهذا قال تعالى عنهم: * (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) * بعد أن أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات ما فيه عبرة لأولي الألباب، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»