تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٦٢
للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرا عجيبا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره. * (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) * أي: حصل معهم طمع بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه. فبينما هم في تلك الحالة * (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) * أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء. * (كذلك نفصل الآيات) * أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال * (لقوم يتفكرون) * أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم. وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان. ولما ذكر الله حال الدنيا، وحاصل نعيمها، شوق إلى الدار الباقية فقال: * (والله يدعو إلى دار السلام) * إلى * (وهم فيها خالدون) *. * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أول ئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * عمم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية، من شاء استخلاصه واصطفاءه. فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة، بعد البيان والرسل. وسمى الله الجنة (دار السلام) لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها، وتمامه، وبقائه، وحسنه من كل وجه. ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها، الموصلة إليها، أخبر عنها بقوله: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة، في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله، بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان. فهؤلاء الذين أحسنوا لهم (الحسنى) وهي: الجنة الكاملة في حسنها و (زيادة) وهي: النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون. ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: * (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) *، أي: لا ينالهم مكروه بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع الإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير، وتكدر. وأما هؤلاء فكما قال الله عنهم * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) *، * (أولئك أصحاب الجنة) * الملازمون لها * (هم فيه خالدون) * لا يحولون، ولا يزولون، ولا يتغيرون. * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أول ئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي. ف * (جزاء) * هم * (سيئة بمثلها) * أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم. * (وترهقهم) * أي تغشاهم * (ذلة) * في قلوبهم وخوف من عذاب الله، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادا في وجوههم. * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟ * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) *، * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة) *. * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا
(٣٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 357 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 ... » »»