تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٦٥
الذي لم يبق منهم أحدا. فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين، والقرون المهلكين. وفي هذا دليل على وجوب التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده، قبل أن يحيط به علما. * (ومنهم من يؤمن به) * أي: بالقرآن وما جاء به، * (ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) * وهم الذين لا يؤمنون به على وجه الظلم، والعناد، والفساد، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب. * (وإن كذبوك) * فاستمر على دعوتك، وليس عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، لكل عمله. * (فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) *، كما قال تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) *. * (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ول كن الناس أنفسهم يظلمون) * يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول ولما جاء به، * (و) * أن * (منهم من يستمعون) * إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت قراءته للوحي، لا على وجه الاسترشاد، بل على وجه التفرج والتكذيب، وتطلب العثرات، وهذا استماع، غير نافع، ولا مجد على أهله خيرا. لا جرم، انسد عليهم باب التوفيق، وحرموا من فائدة الاستماع، ولهذا قال: * (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) *. وهذا الاستفهام بمعنى النفي المتقرر، أي: لا تسمع الصم، الذين لا يستمعون القول، ولو جهرت به، وخصوصا إذا كان عقلهم معدوما. فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك ممتنع إسماعك إياهم إسماعا ينتفعون به. وأما سماع الحجة، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة، فهذا طريق عظيم، من طرق العلم، قد انسد عليهم، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخبر. ثم ذكر انسداد الطريق الثاني، وهو: طريق النظر فقال: * (ومنهم من ينظر إليك) * فلا يفيدهم نظرهم إليك، ولا استراحوا لك شيئا، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون، فكذلك لا تهدي هؤلاء. فإذا فسدت عقولهم، وأسماعهم، وأبصارهم، التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟ ودل قوله: * (ومنهم من ينظر إليك) * الآية، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وأخلاقه، وأعماله، وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه، وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة. وقوله: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * فلا يزيد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم. * (ولكن الناس أنفسهم يظلمون) * يجيئهم الحق، فلا يقبلونه، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم، والختم على أسماعهم وأبصارهم. * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) * يخبر تعالى عن سرعة انقضاء الدنيا وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا. ففي هذا اليوم، يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين، إلى الصراط المستقيم، والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار. * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) * أي: لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب. إما في الدنيا، فتراه بعينك، وتقر به نفسك. وإما في الآخرة بعد الوفاة، فإن مرجعهم إلى الله، وسينبئهم بما كانوا يعملون، وأحصاه ونسوه، والله على كل شيء شهيد، ففيه الوعيد الشديد لهم، والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه. * (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ويقولون متى ه ذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) * يقول تعالى: * (ولكل أمة) * من الأمم الماضية * (رسول) * يدعوهم إلى توحيد الله ودينه. * (فإذا جاء) * هم * (رسولهم) * بالآيات، صدقه بعضهم، وكذبه آخرون، فيقضي الله بينهم بالقسط، بنجاة المؤمنين، وإهلاك المكذبين * (وهم لا يظلمون) * بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول، وبيان الحجة، أو يعذبوا بغير جرمهم. فليحذر المكذبون لك، من مشابهة الأمم المهلكين، فيحل بهم، ما حل بأولئك. ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا: * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *، فإن هذا ظلم منهم، حيث طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له من الأمر شيء، وإنما عليه البلاغ والبيان للناس.
(٣٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 360 361 362 363 364 365 366 367 368 369 370 ... » »»