تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٥٩
الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم، ولهذا قال: * (تجري من تحتهم الأنهار) * الجارية على الدوام * (في جنات النعيم) *. أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام. نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن، وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل، والمشارب، والمناكح، ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون. * (دعواهم فيها سبحانك اللهم) * أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائص، وآخرها، تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنه في دار الجزاء، وإنما بقي لهم، أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو: ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النفس، من دون كلفة ومشقة. * (و) * أما * (تحيتهم فيها) * فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه * (سلام) *، وقد قيل في تفسير قوله: * (دعواهم فيها سبحانك) * إلى آخر الآية، أن أهل الجنة إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال. * (وآخر دعواهم) * إذا فرغوا * (أن الحمد لله رب العالمين) *. * (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) * وهذا من لطفه وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر، إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه * (لقضي إليهم أجلهم) * أي لمحقتهم العقوبة. ولكنه تعالى، يمهلهم، ولا يهملهم، ويعفو عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم، ما ترك على ظهرها من دابة. ويدخل في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده، أو أهله، أو ماله، ربما دعا عليهم دعوة، لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم. وقوله: * (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) * أي: لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله، * (في طغيانهم) * أي: باطلهم، الذي جاوزوا به الحق والحد. * (يعمهون) * يترددون حائرين، لا يهتدون السبيل، ولا يوفقون لأقوم دليل، وذلك عقوبة لهم على ظلمهم، وكفرهم بآيات الله. * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) * وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان، من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض، أو مصيبة، اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما، وقاعدا، ومضطجعا، وألح في الدعاء، ليكشف الله عنه ضره. * (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) * أي: استمر في غفلته، معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضر، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟ يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه، لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر. * (كذلك زين للمسرفين) * أي: المتجاوزين للحد * (ما كانوا يعملون) *. * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) * يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية، بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات، على أيدي الرسل، وتبين الحق، فلم ينقادوا لها، ولم يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم، متجرىء على محارم الله، وهذه سنته في جميع الأمم. * (ثم جعلناكم ) * أي: المخاطبين * (خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) * فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله، وصدقتم رسله، نجوتم في الدنيا والآخرة. وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم، أحل بكم ما أحل بهم، ومن أنذر فقد أعذر. * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرآن غير ه ذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) * يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: * (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) * فقبحهم الله، ما أجرأهم على الله، وأشدهم ظلما، وردا لآياته. فإذا كان الرسول العظيم، يأمره الله، أن يقول لهم: * (قل ما يكون لي) * أي ما ينبغي، ولا يليق بي * (أن أبدله من تلقاء نفسي) *، فإني رسول محض، ليس لي من الأمر شيء، * (إن أتبع إلا ما يوحى
(٣٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 354 355 356 357 358 359 360 361 362 363 364 ... » »»