تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٥٢
الفاسدة في ذلك المسجد * (وليحلفن إن أردنا) * في بنائنا إياه * (إلا الحسنى) * أي: الإحسان إلى الضعيف، والعاجز والضرير. * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * فشهادة الله عليهم أصدق من حلفهم. * (لا تقم فيه أبدا) * أي: لا تصل في ذلك المسجد، الذي بني ضرارا أبدا، فالله يغنيك عنه، ولست بمضطر إليه. * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) * ظهر فيه الإسلام في (قباء)، وهو مسجد (قباء)، أسس على إخلاص الدين لله، وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديما في هذا، عريقا فيه. فهذا المسجد الفاضل * (أحق أن تقوم فيه) * وتتعبد، وتذكر الله تعالى فهو فاضل، وأهله فضلاء، ولهذا مدحهم الله بقوله: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * من الذنوب، ويتطهروا من الأوساخ، والنجاسات، والأحداث. ومن المعلوم أن من أحب شيئا، لا بد أن يسعى له، ويجتهد فيما يحب، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ، والأحداث. ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامة شرائع الدين، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة الله ورسوله. وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم. * (والله يحب المطهرين) * الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك، والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية، كإزالة الأنجاس، ورفع الأحداث. ثم فاضل بين المساجد، بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) * أي: على نية صالحة، وإخلاص * (ورضوان) * بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة، * (خير أم من أسس بنيانه على شفا) * أي: على طرف * (جرف هار) * أي: بال، قد تداعى للانهدام، * (فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين) * لما فيه مصالح دينهم ودنياهم. * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) * أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم. * (إلا أن تقطع قلوبهم) * بأن يندموا غاية الندم، ويتوبوا إلى ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو الله عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم. * (والله عليم) * بجميع الأشياء، ظاهرها وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه. * ( حكيم) * لا يفعل، ولا يخلق، ولا يأمر، ولا ينهى، إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به، فلله الحمد. وفي هذه الآيات عدة فوائد: منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه. منها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى. ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها، والأمر بها، والحث عليها، لأن الله علل اتخاذهم لمسجد الضرار، بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة لله ورسوله. ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها. ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه. وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد (قباء) حتى قال الله فيه: * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) *. ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت، يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه. ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي: كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية لله، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى الله ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه. ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة، وعمل فيه، واختاره الله له، من باب أولى وأحرى. ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. والعمل المبني على سوء القصد، وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين. * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) * يخبر تعالى خبرا صدقا، ويعد وعدا حقا بمبايعة
(٣٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 347 348 349 350 351 352 353 354 355 356 357 ... » »»