تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٤٢
وقصدهم قبحهم الله فيما بينهم، أنهم غير مكترثين بذلك، ولا مهتمين به. لأنه إذا لم يبلغه، فهذا مطلوبهم، وإن بلغه، اكتفوا بمجرد الاعتذار الباطل. فأساءوا كل الإساءة، من أوجه كثيرة، أعظمها أذية نبيهم، الذي جاء لهدايتم، وإخراجهم من الشقاء والهلاك، إلى الهدى والسعادة. ومنها: عدم اهتمامهم أيضا بذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأذية. ومنها: قدحهم في عقل النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم إدراكه، وتفريقه بين الصادق والكاذب. وهو أكمل الخلق عقلا، وأتمهم إدراكا، وأثقبهم رأيا وبصيرة، ولهذا قال تعالى: * (قل أذن خير لكم) * أي: يقبل من قال له خيرا وصدقا. وأما إعراضه وعدم تعنيه لكثير من المنافقين المعتذرين بالأعذار الكاذبة، فلسعة خلقه، وعدم اهتمامه بشأنهم، وامتثاله لأمر الله في قوله: * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس) *. وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه، فقال عنه: * (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) * الصادقين المصدقين، ويعلم الصادق من الكاذب، وإن كان كثيرا ما يعرض عن لذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم. * (ورحمة للذين آمنوا منكم) * فإنهم به يهتدون، وبأخلاقه يقتدون. وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة، بل ردوها، فخسروا دنياهم وآخرتهم. * (والذين يؤذون رسول الله) * بالقول والفعل * (لهم عذاب أليم) * في الدنيا والآخرة. ومن العذاب الأليم، أنه يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه. * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) * فيتبرأوا مما صدر منهم من الأذية وغيرها. فغايتهم أن ترضوا عليهم. * (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) * لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه. فدل هذا، على انتفاء إيمانهم، حيث قدموا رضا غير الله ورسوله. وهذا محادة لله، ومشاقة له، وقد توعد من حاده بقوله: * (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله) * بأن يكون في حق وشق مبعد عن الله ورسوله بأن تهاون بأوامر الله، وتجرأ على محارمه. * (فأن له نار جهنم خالدا فيها وذلك الخزي العظيم) * الذي لا خزي أشنع ولا أفظع منه، حيث فاتهم النعيم المقيم، وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا بالله من حالهم. * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) * كانت هذه السورة الكريمة تسمى (الفاضحة) لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال الله يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن الله ستير، يحب الستر على عباده. والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف. قال الله تعالى: * (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) *. وقال هنا: * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) * أي: تخبرهم وتفضحهم، وتبين أسرارهم، حتى تكون علانية لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين. * (قل استهزئوا) * أي: استمروا على ما أنتم عليه، من الاستهزاء والسخرية. * (إن الله مخرج ما تحذرون) * وقد وفى تعالى بوعده، فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم، وهتكت أستارهم. * (ولئن سألتهم) * عما قالوه من الطعن في المسلمين، وفي دينهم، يقول طائفة منهم في غزوة تبوك: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرغب بطونا وأكذب ألسنا، وأجبن عند اللقاء) ونحو ذلك. ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم، جاؤوا يعتذرون إليه ويقولون: * (إنما كنا نخوض ونلعب) * أي نتكلم بكلام، لا قصد لنا به، ولا قصدنا الطعن والعيب. قال الله تعالى مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك: * (قل) * لهم * (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) * فإن الاستهزاء بالله ورسوله، كفر مخرج عن الدين، لأن أصل الدين، مبني على تعظيم الله، وتعظيم
(٣٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 337 338 339 340 341 342 343 344 345 346 347 ... » »»