تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٣٣٧
القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما، فهذا كما أخبر الله عنهم أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير. منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع الله ودينه، والله ورسوله بريئان منه. ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا. ومنها: أنهم موهوا على الله بزعمهم، وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين الله. ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع، مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل. ولهذا قال: * (يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله) * أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم الله. * (زين لهم سوء أعمالهم) * أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم. * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا. اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة، نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا، والزاد قليلا، والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل، ما أوجب أن يعاتبهم الله تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) * * (يا أيها الذين آمنوا) * ألا تعملون بمقتضى الإيمان، ودواعي اليقين، من المبادرة لأمر الله، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه لدينكم. ف * (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) * أي: تكاسلتم، وملتم إلى الأرض، والدعة، والكون فيها. * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * أي: ما حالكم، إلا حال من رضي بالدنيا، وسعى لها، ولم يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها. * (فما متاع الحياة الدنيا) * التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة * (إلا قليل) *، أفليس قد جعل الله لكم عقولا، تزنون بها الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟ أفليست الدنيا من أولها إلى آخرها لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا، حتى يجعله الغاية، التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه، وكده، وهمه، وإرادته، لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار. فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة، الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون. فوالله ما آثر الدنيا على الآخرة، من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عد من أولي الألباب، ثم توعدهم على عدم النفير فقال: * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار، من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيه من المضار الشديدة. فإن المتخلف، قد عصى الله تعالى، وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين الله، ولا ذب عن كتاب الله وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم، الذي يريد أن يستأصلهم، ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فت في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله، فحقيق بمن هذا حاله، أن يتوعده الله بالوعيد الشديد، فقال: * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا) *، فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر الله، أو ألقيتموه وراءكم ظهريا. * (والله على كل شيء قدير) * لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد. * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) * أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فالله غني عنكم، لا تضرونه شيئا، فقد نصره في أقل ما يكون * (إذ أخرجه الذين كفروا) * من مكة، لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك، وحرصوا أشد الحرص، فألجأوه إلى أن يخرج. * (ثاني اثنين) * أي: هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، * (إذ هما في الغار) * أي: لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور، في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب. فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال. * (إذ يقول) * النبي صلى الله عليه وسلم * (لصاحبه) * أبي بكر لما حزن واشتد قلقه،
(٣٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 332 333 334 335 336 337 338 339 340 341 342 ... » »»