دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل، ومناقض له أشد المناقضة. ولهذا لما جاؤوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة، والرسول لا يزيدهم على قوله: * (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) *. وقوله: * (إن نعف عن طائفة منكم) * لتوبتهم واستغفارهم وندمهم، * (نعذب طائفة) * منكم * (بأنهم) * أي بسبب أنهم * (كانوا مجرمين) * مقيمين على كفرهم ونفاقهم. وفي هذه الآيات، دليل على أن من أسر سريرة، خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه، ويستهزىء به وبآياته ورسوله، فإن الله تعالى يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة. وأن من استهزأ بشيء من كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، أو سخر بذلك، أو تنقصه، أو استهزأ بالرسول، أو تنقصه، فإنه كافر بالله العظيم، وأن التوبة مقبولة من كل ذنب، وإن كان عظيما. * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) * يقول تعالى: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * لأنهم اشتركوا في النفاق، فاشتركوا في تولي بعضهم بعضا، وفي هذا قطع للمؤمنين من ولايتهم. ثم ذكر وصف المنافقين العام، الذي لا يخرج منه صغير منهم ولا كبير، فقال: * (يأمرون بالمنكر) * وهو: الكفر، والفسوق، والعصيان. * (وينهون عن المعروف) * وهو: الإيمان، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، والآداب الحسنة. * (ويقبضون أيديهم) * عن الصدقة، وطرق الإحسان، فوصفهم بالبخل. * (نسوا الله) * فلا يذكرونه إلا قليلا، * (فنسيهم) * من رحمته، فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة، بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار، خالدين فيها، مخلدين. * (إن المنافقين هم الفاسقون) * حصر الفسق فيهم، لأن فسقهم، أعظم من فسق غيرهم، بدليل أن عذابهم أشد من عذاب غيرهم، وأن المؤمنين قد ابتلوا بهم، إذ كانوا بين أظهرهم، والاحتراز منهم شديد. * (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) *، جمع المنافقين والكفار، في نار جهنم، واللعنة والخلود في ذلك، لاجتماعهم في الدنيا على الكفر، والمعاداة لله ورسوله، والكفر بآياته. * (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أول ئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون * ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ول كن كانوا أنفسهم يظلمون) * يقول تعالى واصفا حال المنافقين: إن حالكم أيها المنافقون كحال أمثالكم ممن سبقوكم إلى النفاق والكفر، وقد كانوا أقوى منكم وأكثر أموالا وأولادا، استمتعوا بما قدر لهم من حظوظ الدنيا، وأعرضوا عن ذكر الله وتقواه، وقابلوا أنبياءهم بالاستخفاف، وسخروا منهم فيما بينهم وبين أنفسهم. وقد استمتعتم بما قدر لكم من ملاذ الدنيا كما استمتعوا، وخضتم فيما خاضوا فيه من المنكر والباطل. إنهم قد بطلت أعمالهم فلم تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وكانوا هم الخاسرين، وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل، والعاقبة الوخيمة. * (فاستمتعتم بخلاقكم) * أي: بنصيبكم من الدنيا، فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة، معرضين عن المراد منه، واسعنتنم به على معاصي الله، ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم، كما فعل الذين من قبلكم * (وخضتم كالذي خاضوا) * أي: وخضتم بالباطل والزور، وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق. فهذه أعمالهم وعلومهم، استمتاع بالخلاق، وخوض بالباطل، فاستحقوا من العقوبة والإهلاك، ما استحق من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم. وأما المؤمنون منهم وإن استمتعوا بنصيبهم، وما خولوا من الدنيا فإنه على وجه الاستعانة به على طاعة الله. وأما علومهم فهي علوم الرسل، وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية، والمجادلة بالحق، لإدحاض الباطل. يقول تعالى محذرا للمنافقين، أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم المكذبة. * (قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات) * أي: قرى قوم لوط. فكلهم * (أتتهم رسلهم بالبينات) * أي: بالحق الواضح الجلي، المبين لحقائق الأشياء، فكذبوا بها، فجرى عليهم ما قص الله علينا فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم. قوله: * (فما كان الله ليظلمهم) * إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع. * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * حيث تجرأوا على معاصيه، وعصوا رسلهم، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أول ئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم * وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) * لما ذكر أن المنافقين،
(٣٤٣)