عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه * (اشترى) * بنفسه الكريمة * (من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * فهي المثمن والسلعة المبيعة. * (بأن لهم الجنة) * التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات، والأفراح، والمسرات، والحور الحسان، والمنازل الأنيقات. وصفة العقد والمبايعة، بأن يبذلوا لله نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته، وإظهار دينه * (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) *، فهذا العقد والمبايعة، قد صدرت من الله مؤكدة بأنواع التأكيدات. * (وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) * التي هي أشرف الكتب، التي طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل، أولو العزم، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق. * (ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا) * أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم الله، * (ببيعكم الذي بايعتم به) * أي: لتعزموا بذلك، وليبشر بعضكم بعضا، ويحث بعضكم بعضا. * (وذلك هو الفوز العظيم) * الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات. وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة، على أفضل الخلق. * (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) * كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات، ونيل الكرامات؟ فقال: هم * (التائبون) * أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. * (العابدون) * أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. * (الحامدون) * لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل، وآناء النهار. * (السائحون) * فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب، في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك. * (الراكعون الساجدون) * أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع والسجود. * (الآمرون بالمعروف) * ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات. * (والناهون عن المنكر) * وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه. * (والحافظون لحدود الله) * بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر، والنواهي، والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا. * (وبشر المؤمنين) * لم يذكر ما يبشر لهم به، ليعم جميع ما رتب على الإيمان، من ثواب الدنيا، والدين والآخرة، فالبشارة متناولة لكل مؤمن. وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين، وإيمانهم، قوة، وضعفا، وعملا بمقتضاه. * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) * يعني: ما يليق ولا يحسن بالنبي والمؤمنين به * (أن يستغفروا للمشركين) *، أي: لمن كفر به، وعبد معه غيره * (ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) *، فإن الاستغفار لهم في هذه الحال، غلط غير مفيد، فلا يليق بالنبي والمؤمنين، لأنهم إذا ماتوا على الشرك، أو علم أنهم يموتون عليه، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلود في النار، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين، ولا استغفار المستغفرين. وأيضا، فإن النبي والذين آمنوا معه، عليهم أن يوافقوا ربهم، في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه الله، ويعادوا من عاداه الله، والاستغفار منهم، لمن تبين أنه من أصحاب النار، مناف لذلك، مناقض له. ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه * (عن موعدة وعدها إياه) * في قوله: * (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) * وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه. فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير * (تبرأ منه) * موافقة لربه وتأدبا معه.
* (إن إبراهيم لأواه) * أي: رجاع إلى الله في جميع الأمور، كثير الذكر، والدعاء، والاستغفار، والإنابة إلى ربه. * (حليم) * أي: ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه، فأبوه قال له: * (لأرجمنك) * وهو يقول له: * (سلام عليك سأستغفر لك ربي) *. فعليكم أن تقتدوا به، وتتبعوا ملة إبراهيم في كل شيء * (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) * كما نبهكم الله عليها، وعلى غيرها، ولهذا قال: * (وما كان الله