للمقل الفقير: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: * (الذين يلمزون) * أي: يعيبون ويطعنون * (المطوعين من المؤمنين في الصدقات) * فيقولون: مراءون، قصدهم الفخر والرياء. * (و) * يلمزون * (الذين لا يجدون إلا جهدهم) * فيخرجون ما استطاعوا ويقولون: الله غني عن صدقاتهم * (فيسخرون منهم) *. فقوبلوا على صنيعهم بأن * (سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) * فإنهم جمعوا في كلامهم هذا، بين عدة محاذير. منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين، وحرصهم على أن يجدوا مقالا يقولونه فيهم، والله يقول: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) *. ومنها: طعنهم بالمؤمنين، لأجل إيمانهم، كفرا بالله تعالى، وبغضا للدين. ومنها: أن اللمز محرم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللمز في أمر الطاعة، فأقبح وأقبح. ومنها: أن من أطاع الله، وتطوع بخصلة من خصال الخير، فإن الذي ينبغي هو إعانته وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم وعابوهم عليه. ومنها: أن حكمهم على من أنفق مالا كثيرا بأنه مراء، غلط فاحش، وحكم على الغيب، ورجم بالظن، وأي شر أكبر من هذا؟ ومنها: أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة (الله غني عن صدقة هذا)، كلام مقصوده باطل، فإن الله غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه. فالله وإن كان غنيا عنهم فهم فقراء إليه * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *. وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين، ولهذا كان جزاؤهم أن يسخر الله منهم، ولهم عذاب أليم. * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة) * على وجه المبالغة، وإلا فلا مفهوم لها. * (فلن يغفر الله لهم) * كما قال في الآية الأخرى: * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) *، ثم ذكر السبب المانع لمغفرة الله لهم فقال: * (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) *، والكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام كافرا. * (والله لا يهدي القوم الفاسقين) * أي: الذين صار الفسق لهم وصفا، بحيث لا يختارون عليه سواه ولا يبغون به بدلا، يأتيهم الحق الواضح، فيردونه، فيعاقبهم الله تعالى، بأن لا يوفقهم له بعد ذلك. * (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) * يقول تعالى مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم الإيمان، واختيار الكفر على الإيمان. * (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) *، وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به. * (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) *، وهذا بخلاف المؤمنين، الذين إذا تخلفوا ولو لعذر حزنوا على تخلفهم وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لما في قلوبهم من الإيمان، ويرجون من فضل الله وإحسانه، وبره وامتنانه. * (وقالوا) * أي: المنافقون * (لا تنفروا في الحر) * أي: قالوا إن النفير مشقة علينا، بسبب الحر، فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة الأبدية التامة. وحذروا من الحر الذي تقي منه الظلال، وتذهبه البكور والآصال، على الحر الشديد الذي لا يقادر قدره، وهو النار الحامية. ولهذا قال: * (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) * لما آثروا، ما يفنى على ما يبقى، ولما فروا من المشقة الخفيفة المنقضية، إلى المشقة الشديدة الدائمة. قال تعالى: * (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) * أي: فليتمتعوا في هذه الدار المنقضية، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيرا في عذاب أليم * (جزاء بما كانوا يكسبون) * من الكفر والنفاق، وعدم الانقياد لأوامر ربهم. * (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) * وهم الذين تخلفوا من غير عذر، ولم يحزنوا على تخلفهم. * (فاستأذنوك للخروج) * لغير هذه الغزوة، إذا رأوا السهولة. * (فقل) * لهم عقوبة * (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) * فسيغني الله عنكم. * (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) * وهذا كما قال تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) *، فإن المتثاقل المتخلف عن المأمور به عند انتهاز الفرصة، لن يوفق له بعد ذلك، ويحال بينه وبينه. وفيه أيضا تعزير لهم، فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد، لمعصيتهم، كان
(٣٤٦)