ثم عرض عليهم التوبة فقال: * (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) * لأن التوبة أصل لسعادة الدنيا والآخرة. * (وإن يتولوا) * عن التوبة والإنابة * (يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة) * في الدنيا بما ينالهم من الهم، والغم، والحزن على نصرة الله لدينه، وإعزاز نبيه، وعدم حصولهم على مطلوبهم، وفي الآخرة، في عذاب السعير. * (وما لهم في الأرض من ولي) * يتولى أمورهم، ويحصل لهم المطلوب، * (ولا نصير) * يدفع عنهم المكروه، وإذا انقطعوا من ولاية الله تعالى، فثم أصناف الشر والخسران، والشقاء والحرمان. * (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) * أي: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه * (لئن آتانا من فضله) * من الدنيا فبسطها لنا ووسعها * (لنصدقن ولنكونن من الصالحين) *، فنصل الرحم، ونقري الضيف، ونعين على نوائب الحق، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة. * (فلما آتاهم من فضله) * لم يفوا بما قالوا، بل * (بخلوا به وتولوا) * عن الطاعة والانقياد * (وهم معرضون) * أي: غير ملتفتين إلى الخير. فلما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه، عاقبهم و * (أعقبهم نفاقا في قلوبهم) * مستمرا * (إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) *. فليحذر المؤمن من هذا الوصف الشنيع، أن يعاهد ربه، إن حصل مقصوده الفلاني، ليفعلن كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبه الله بالنفاق كما عاقب هؤلاء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف). فهذا المنافق الذي وعد الله وعاهده، لئن أعطاه الله من فضله، ليصدقن، وليكونن من الصالحين، حدث فكذب، وعاهد فغدر، ووعد فأخلف. ولهذا توعد من صدر منهم هذا الصنيع بقوله: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) *، وسيجازيهم على ما عملوا من الأعمال التي يعلمها الله تعالى، وهذه الآيات نزلت في رجل من المنافقين يقال له: (ثعلبة). جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يدعو الله له، أن يعطيه من فضله، وأنه إن أعطاه ليتصدقن، ويصل الرحم، ويعين على نوائب الحق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له، فكان له غنم، فلم تزل تتنامى حتى خرج بها عن المدينة، فكان لا يحضر إلا بعض الصلوات الخمس، ثم أبعد، فكان لا يحضر إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت فأبعدها، فكان لا يحضر جمعة ولا جماعة. ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بحاله، فبعث من يأخذ الصدقات من أهلها، فمروا على ثعلبة، فقال ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. فلما لم يعطهم، جاؤوا، فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا ويح ثعلبة) ثلاثا. فلما نزلت هذه الآية فيه، وفي أمثاله، ذهب بها بعض أهله فبلغه إياها، فجاء بزكاته، فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بها إلى أبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، ثم جاء بها بعد أبي بكر إلى عمر فلم يقبلها، فيقال: إنه هلك في زمن عثمان. وهذا أيضا من مخازي المنافقين، فكانوا قبحهم الله لا يدعون شيئا من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا، إلا قالوا وطعنوا، بغيا وعدوانا. فلما حث الله ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم، كل على حسب حاله، منهم المكثر، ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا
(٣٤٥)