ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم، ظن وصدق ظنه فقال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * فإن القيام بالشكر، من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدهم عنه، وعدم قيامهم به، قال تعالى: * (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) *. وإنما نبهنا الله على ما قال وعزم على فعله، لنأخذ حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا، بالطريق التي يأتي منها، ومداخله التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة. * (قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) * أي: قال الله لإبليس لما قال ما قال: * (اخرج منها) * خروج صغار واحتقار، لا خروج إكرام بل * (مذؤوما) * أي: مذموما * (مدحورا) * مبعدا عن الله، وعن رحمته، وعن كل خير. * (لأملأن جهنم منكم) * أي: منك وممن تبعك منهم * (أجمعين) * وهذا قسم من الله تعالى، أن النار دار العصاة، لا بد أن يملأها من إبليس وأتباعه من الجن والإنس. * (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا ه ذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن ه ذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * ثم حذر آدم شره وفتنته فقال: * (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) * إلى قوله: * (من الخاسرين) *. أي أمر الله تعالى، آدم وزوجته حواء، التي أنعم الله بها عليه، ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، والله أعلم، ما هي، وليس في تعيينها فائدة لنا. وحرم عليهما أكلها، بدليل قوله: * (فتكونا من الظالمين) * فلم يزالا ممتثلين لأمر الله، حتى تغلغل إليهما، عدوهما إبليس بمكره، فوسوس لهما وسوسة، خدعهما بها، وموه عليهما وقال: * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * أي: من جنس الملائكة * (أو تكونا من الخالدين) * كما قال في الآية الأخرى: * (هل أدلك على شجرة الخلق وملك لا يبلى) *. ومع قوله هذا، أقسم لهما بالله: * (إني لكما لمن الناصحين) * أي: من جملة الناصحين، حيث قلت لكما، ما قلت. فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل. * (فدلاهما) * أي: أنزلهما عن رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها، فأقدما على أكلها. * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) * أي: ظهرت عورة كل منهما بعدما كانت مستورة، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال، أثر في اللباس الظاهر، حتى انخلع، فظهرت عوراتهما، ولما ظهرت عوراتهما، خجلا، وجعلا يخصفان على عوراتهما، من أوراق شجر الجنة، ليستترا بذلك. * (وناداهما ربهما) * وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا: * (ألم أنهكما عن تلك الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) * فلم اقترفتما المنهي، وأطعتما عدوكما؟ فحينئذ، من الله عليهما بالتوبة وقبولها، فاعترفا بالذنب، وسألا الله مغفرته فقالا: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *، أي: قد فعلنا الذنب، الذي نهيتنا عنه، وأضررنا بأنفسنا، باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا، بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا. فغفر الله لهما ذلك * (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) *. هذا، وإبليس مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عصيانه، فمن أشبه آدم بالاعتراف، وسؤال المغفرة والندم، والإقلاع إذا صدرت منه الذنوب اجتباه ربه وهداه. ومن أشبه إبليس إذا صدر منه الذنب، لا يزال يزداد من المعاصي فإنه لا يزداد من الله إلا بعدا. * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) * * (قال اهبطوا) * أي: قال الله، مخاطبا لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل إلى السماء، ثم هبطوا جميعا إلى الأرض. وكرر الأمر لإبليس، تبعا لهما، ليعلم أنهم قرناء أبدا، لأن إبليس، لا يفارق الإنسان، بل يلازمه كل الملازمة، ويبذل كل جهده، في إضلال بني آدم. وجملة * (بعضكم لبعض عدو) * في موضع نصب على الحال، من الضمير الذي هو الواو، في * (اهبطوا) *. وخلاصة المعنى أن الله قال لهما وللشيطان: اهبطوا جميعا من الجنة إلى الأرض متعادين، ولكم في الأرض، استقرار، وموضع استقرار، تتمتعون وتنتفعون، إلى حين انقضاء آجالكم. * (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) * أي: لما أهبط الله آدم وزوجته وذريتهما إلى الأرض، أخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة، يتلوها الموت، مشحونة بالامتحان والابتلاء، وأنهم لا يزالون فيها، يرسل إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت، فيدفنون فيها. ثم إذا استكملوا، بعثهم الله، وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة. ثم امتن عليهم بما يسر لهم، من اللباس الضروري، واللباس الذي
(٢٨٥)