تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٨٤
فيه ولا ظلم بوجه. * (فمن ثقلت موازينه) * بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته، * (فأولئك هم المفلحون) * أي: الناجون من المكروه، المدركون للمحبوب الذين حصل لهم الربح العظيم، والسعادة الدائمة. * (ومن خفت موازينه) * بأن رجحت سيئاته، وصار الحكم لها، * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) * إذ فاتهم النعيم المقيم، وحصل لهم العذاب الأليم، * (بما كانوا بآياتنا يظلمون) * فلم ينقادوا لها، كما يجب عليهم ذلك. * (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون) * يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة: * (ولقد مكناكم في الأرض) * أي: هيأناها لكم، بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها، ووجوه الانتفاع بها. * (وجعلنا لكم فيها معايش) * مما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع والتجارات، فإنه هو الذي هيأها، وسخر أسبابها. * (قليلا ما تشكرون) * الله، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم، وصرف عنكم النقم. * (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) * يقول تعالى، مخاطبا بني آدم: * (ولقد خلقناكم) * بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم، من أبيكم آدم عليه السلام * (ثم صورناكم) * في أحسن صورة، وأحسن تقويم، وعلمه تعالى ما به تكمل صورته الباطنة، أسماء كل شيء. ثم أمر الملائكة الكرام، أن يسجدوا لآدم، إكراما واحتراما، وإظهارا لفضله، فامتثلوا أمر ربهم، * (فسجدوا) * كلهم أجمعون، * (إلا إبليس) * أبى أن يسجد له، تكبرا عليه، وإعجابا بنفسه، فوبخه الله على ذلك وقال: * (ما منعك ألا تسجد) * لما خلقت بيدي، أي: شرفته، وفضلته بهذه الفضيلة، التي لم تكن لغيره، فعصيت أمري، وتهاونت بي؟ * (قال) * إبليس معارضا لربه: * (أنا خير منه) *، ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله له: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) *، وموجب هذا، أن المخلوق من نار، أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين، وصعودها. وهذا القياس من أفسد الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه: منها: أنه في مقابلة أمر الله له بالسجود، والقياس إذا عارض النص، فإنه قياس باطل، لأن المقصود بالقياس، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص، يقارب الأمور المنصوص عليها، ويكون تابعا لها. فأما قياس يعارضها، ويلزم من اعتباره إلغاء النصوص، فهذا القياس من أشنع الأقيسة. ومنها: أن قوله: * (أنا خير منه) * بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه، وتكبره، والقول على الله بلا علم. وأي نقص أعظم من هذا؟ ومنها: أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب، فإن مادة الطين، فيها الخشوع، والسكون، والرزانة، ومنها تظهر بركات الأرض، من الأشجار، وأنواع النبات، على اختلاف أجناسه وأنواعه. وأما النار، ففيها الخفة، والطيش، والإحراق. ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين، فقال الله له: * (فاهبط منها) * أي من الجنة * (فما يكون لك أن تتكبر فيها) * لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم. * (فأخرج إنك من الصاغرين) * أي: المهانين الأذلين، جزاء على كبره وعجبه، بالإهانة والذل. فلما أعلن عدو الله بعداوة الله، وعداوة آدم وذريته، سأل الله النظرة والإمهال إلى يوم البعث، ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم. ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه، ومن يطيع عدوه، أجابه لما سأل فقال: * (إنك من المنظرين) *. * (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * أي: قال إبليس لما أبلس، وأيس من رحمة الله * (فبما أغويتني لأقعدن لهم) * أي: للخلق * (صراطك المستقيم) * أي: لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي، على صد الناس عنه، وعدم سلوكهم إياه. * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * أي: من جميع الجهات والجوانب، ومن كل طريق يتمكن فيه، من إدراك بعض مقصوده فيهم.
(٢٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 279 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 ... » »»