تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٧٤
العذاب، ويأخذون منهم، بالظلم والجور، أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه، ولا محتسبين. كما أن العباد، إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف. ثم وبخ الله، جميع من أعرض عن الحق ورده، من الجن والإنس، وبين خطأهم، فاعترفوا بذلك، فقال: * (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) * الواضحات البينات، التي فيها تفاصيل الأمر والنهي، والخير والشر، والوعد والوعيد. * (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * ويعلمونكم أن النجاة فيه، والفوز إنما هو بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك. فأقروا بذلك واعترفوا، ف * (قالوا) * بلى * (شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) * بزينتها، وزخرفها، ونعيمها فاطمأنوا بها، ورضوا بها، وألهتهم عن الآخرة. * (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) * فقامت عليهم حجة الله، وعلم حينئذ، كل أحد، حتى هم بأنفسهم، عدل الله فيهم. * (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بطلم وأهلها غافلون) * ولكنهم، وإن اشتركوا في الخسران، فإنهم يتفاوتون في مقداره، تفاوتا عظيما. * (ولكل) * منهم * (درجات ما عملوا) * بحسب أعمالهم، لا يجعل قليل الشر منهم، ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس. كما أن أهل الثواب والجنة، وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة، فإن بينهم من الفرق، ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم، رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم. فنسأله تعالى، أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى، التي أعدها الله للمقربين من عباده، والمصطفين من خلقه، وأهل الصفوة، أهل وداده. * (وما ربك بغافل عما يعملون) * فيجازي كلا بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده. وإنما أمر الله العباد بالأعمال الصالحة، ونهاهم عن الأعمال السيئة، رحمة بهم، وقصدا لمصالحهم. وإلا، فهو الغني بذاته، عن جميع مخلوقاته، فلا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين. * (إن يشأ يذهبكم) * بالإهلاك * (ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) *. فإذا عرفتم بأنكم، لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار، كما انتقل غيركم، وترحلون منها، وتخلونها لمن بعدكم، كما رحل عنها من قبلكم، وخلوها لكم. فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها، ونسيتم أنها دار ممر لا دار مقر. وأن أمامكم دارا، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص؟ وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون، ويرتحل نحوها، السابقون واللاحقون. التي إذا وصلوها، فثم الخلود الدائم، والإقامة اللازمة، والغاية التي لا غاية وراءها، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب. هنالك، والله، ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ويتنافس فيه المتنافسون، من لذة الأرواح، وكثرة الأفراح، ونعيم الأبدان والقلوب، والقرب من علام الغيوب. فلله همة، تعلقت بتلك الكرامات، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات وما أبخس حظ من رضي بالدون، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون ولا يستبعد المعرض الغافل، سرعة الوصول إلى هذه الدار. * (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) * لله، فارين من عقابه، فإن نواصيكم تحت قبضته، وأنتم تحت تدبيره وتصرفه. * (قل) * يا أيها الرسول لقومك: إذا دعوتهم إلى الله، وبينت لهم مآلهم وما عليهم من حقوقه، فامتنعوا من الانقياد لأمره، واتبعوا أهواءهم، واستمروا على شركهم: * (يا قوم اعملوا على مكانتكم) * أي: على حالتكم التي أنتم عليها، ورضيتموها لأنفسكم. * (إني عامل) * على أمر الله، ومتبع لمراضي الله. * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) * أنا أو أنتم. وهذا من الإنصاف، بموضع عظيم حيث بين الأعمال وعامليها، وجعل الجزاء مقرونا بنظر البصير، ضاربا فيه صفحا، عن التصريح الذي يغني عنه التلويح. وقد علم أن العاقبة الحسنة، في الدنيا والآخرة، للمتقين. وأن المؤمنين لهم عقبى الدار، وأن كل معرض عن ما جاءت به الرسل، عاقبته سوء وشر، ولهذا قال: * (إنه لا يفلح الظالمون) * فكل ظالم، وإن تمتع في الدنيا بما تمتع به، فنهايته فيه، الاضمحلال والتلف (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته). * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا ه ذا لله بزعمهم وه ذا لشركآئنا فما كان
(٢٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 ... » »»