من أمة موسى، فإن الله أنعم على المحسنين منهم، بنعم لا تحصى. من جملتها وتمامها، إنزال التوراة عليهم. فتمت عليهم نعمة الله، ووجب عليهم القيام بشكرها. * (وتفصيلا لكل شيء) * يحتاجون إلى تفصيله، من الحلال، والحرام، والأمر، والنهي، والعقائد ونحوها. * (وهدى ورحمة) * أي: يهديهم إلى الخير، ويعرفهم بالشر، في الأصول، والفروع. * (ورحمة) * يحصل لهم بها، السعادة والرحمة، والخير الكثير. * (لعلهم) * بسبب إنزالنا الكتاب والبينات عليهم. * (بلقاء ربهم يؤمنون) * فإنه اشتمل من الأدلة القاطعة، على البعث، والجزاء بالأعمال، وما يوجب لهم الإيمان، بلقاء ربهم، والاستعداد له. * (وهذا) * القرآن العظيم، والذكر الحكيم. * (كتاب أنزلناه مبارك) * أي: فيه الخير الكثير، والعلم الغزير. وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات. فما من خير، إلا وقد دعا إليه، ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح، التي تحث عليه. وما من شر، إلا وقد نهى عنه، وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله، وعواقبها الوخيمة. * (فاتبعوه) * فيما يأمر به، وينهى، وابنوا أصول دينكم، وفروعه عليه. * (واتقوا) * الله تعالى أن تخالفوا له أمرا * (لعلكم) * إن اتبعتموه * (ترحمون) *. فأكبر سبل لنيل رحمة الله، اتباع هذا الكتاب، علما وعملا. * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * أي: أنزلنا إليكم هذا الكتاب المبارك، قطعا لحجتكم، وخشية أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، أي: اليهود والنصارى. * (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * أي: تقولون لم تنزل علينا كتابا، والكتب التي أنزلتها على الطائفتين، ليس لنا بها علم ولا معرفة. فأنزلنا إليكم كتابا، لم ينزل من السماء كتاب، أجمع، ولا أوضح، ولا أبين، منه. * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) * أي: إما أن تعتذروا بعدم وصول أصل الهداية إليكم. وإما أن تعتذروا، بعدم كمالها وتمامها، فحصل لكم بكتابكم، أصل الهداية وكمالها. ولهذا قال: * (فقد جاءكم بينة من ربكم) * وهذا اسم جنس، يدخل فيه كل ما يبين الحق. * (وهدى) * من الضلالة * (ورحمة) * أي: سعادة لكم في دينكم ودنياكم. فهذا يوجب لكم الانقياد لأحكامه، والإيمان بأخباره، وأن من لم يرفع به رأسا، وكذب به، فإنه أظلم الظالمين، ولهذا قال: * (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) * أي: أعرض ونأى بجانبه. * (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب) * الذي يسوء صاحبه، ويشق عليه. * (بما كانوا يصدفون) * لأنفسهم ولغيرهم، جزاء لهم، على عملهم السئ * (وما ربك بظلام للعبيد) *. وفي هذه الآيات، دليل على أن علم القرآن، أجل العلوم وأبركها، وأوسعها وأنه به، تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم، هداية تامة، لا يحتاج معها إلى تخرص المتكلفين، ولا إلى أفكار المتفلسفين، ولا لغير ذلك، من علوم الأولين والآخرين. وأن المعروف، أنه لم ينزل جنس الكتاب، إلا على الطائفتين، من اليهود والنصارى. فهم أهل الكتاب عند الإطلاق، لا يدخل فيهم سائر الطوائف. لا المجوس، ولا غيرهم. وفيه: ما كان عليه الجاهلية، قبل نزول القرآن، من الجهل العظيم، وعدم العلم بما عند أهل الكتاب، الذين عندهم، مادة العلم، وغفلتهم عن دراسة كتبهم. يقول تعالى: هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم. * (إلا أن يأتيهم) * مقدمات العذاب، ومقدمات الآخرة، بأن تأتيهم * (الملائكة) * لقبض أرواحهم. فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال، لم ينفعهم الإيمان، ولا صالح الأعمال. * (أو يأتي ربك) * لفصل القضاء بين العباد، ومجازاة المحسنين والمسيئين. * (أو يأتي بعض آيات ربك) * الدالة على قرب الساعة. * (يوم يأتي بعض آيات ربك) * الخارقة للعادة، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت، وأن القيامة قد اقتربت. * (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) * أي: إذا وجد بعض آيات الله، لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن، ولا المؤمن المقصر أن يزداد خيره بعد ذلك. بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك. وما كان له من الخير الموجود، قبل أن يأتي بعض الآيات. والحكمة في هذا ظاهرة، فإنه إنما كان الإيمان ينفع، إذا كان إيمانا بالغيب، وكان اختيارا من العبد. فأما إذا وجدت الآيات، صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه الإيمان الضروري، كإيمان الغريق، والحريق، ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه، كما قال تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده) *.
(٢٨١)