تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٧٠
باطلا والباطل حقا، ولهذا قال تعالى: * (ولتصغى إليه) * أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف * (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) * لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة، يحملهم على ذلك. * (وليرضوه) * بعد أن يصغوا إليه، فيصغون إليه أولا. فإذا مالوا إليه، ورأوا تلك العبارات المستحسنة، رضوه، وزين في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة، وصفة لازمة. ثم ينتج من ذلك، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال، ما هم مقترفون. أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة. فهذه حال المفترين، شياطين الإنس والجن، المستجيبين لدعوتهم. وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية، والألباب الرزينة، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك التمويهات. بل همتهم، مصروفة إلى معرفة الحقائق، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة. فإن كانت حقا، قبلوها، وانقادوا لها، ولو كسيت عبارات رديئة، وألفاظا غير وافية. وإن كانت باطلا، ردوها على من قالها، كائنا من كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة، ما هو أرق من الحرير. ومن حكمته تعالى، في جعله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه، أن يحصل لعباده، الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى. ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق، وتوضيحا له. فإن الحق يستنير ويتضح، إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه. فإنه حينئذ يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب، التي يتنافس فيها المتنافسون. * (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) * أي: قل يا أيها الرسول * (أفغير الله أبتغي حكما) * أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه. فإن غير الله محكوم عليه، لا حاكم. وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور. وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما، هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. * (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) * أي: موضحا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما، ولا أقوم قيلا، لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة. وأهل الكتب السابقة، من اليهود، والنصارى، يعترفون بذلك * (ويعلمون أنه منزل من ربك بالحق) * ولهذا، تواطأت الأخبار * (فلا) * تشكن في ذلك ولا * (تكونن من الممترين) *. ثم وصف تفصيلها فقال: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) * أي: صدقا في الإخبار، وعدلا، في الأمر والنهي. فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز، ولا أعدل من أوامره ونواهيه و * (لا مبدل لكلماته) * حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق، وبغاية الحق. فلا يمكن تغييرها، ولا اقتراح أحسن منها. * (وهو السميع) * لسائر الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات. * (العليم) * الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والماضي والمستقبل. * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * يقول تعالى، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، محذرا عن طاعة أكثر الناس: * (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) * فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم، وأعمالهم، وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا ويتخرصون في القول على الله، ما لا يعلمون. ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذر الله منه عباده، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن أمته تبع له، في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه. والله تعالى أصدق قيلا، وأصدق حديثا، و * (هو أعلم من يضل عن سبيله) * وأعلم بمن يهتدي ويهدي. فيجب عليكم أيها المؤمنون أن تتبعوا نصائحه وأوامره ونواهيه لأنه أعلم بمصالحكم، وأرحم بكم من أنفسكم. ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق، بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور، أن يكون غير حق. بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق، هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا وأجرا. بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه. * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) * يأمر تعالى، عباده المؤمنين، بمقتضى الإيمان، وأنهم، إن كانوا مؤمنين، فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، من بهيمة الأنعام، وغيرها، من الحيوانات المحللة، ويعتقدوا حلها،
(٢٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 265 266 267 268 269 270 271 272 273 274 275 ... » »»