الحق قصا، قطع به معاذيرهم، وانقطعت له حجتهم. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. * (وهو خير الفاصلين) * بين عباده، في الدنيا والآخرة فيفصل بينهم فصلا، يحمده عليه، حتى من قضى عليه، ووجه الحق نحوه. * (قل) * للمستعجلين بالعذاب، جهلا وعنادا وظلما. * (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) * فأوقعته بكم، ولا خير لكم في ذلك. ولكن الأمر، عند الحليم الصبور، الذي يعصيه العاصون، ويتجرأ عليه المتجرئون، وهو يعافيهم، ويرزقهم، ويسدي إليهم نعمه، الظاهرة والباطنة. * (والله أعلم بالظالمين) * لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فيمهلهم ولا يهملهم. * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا، لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه. وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلا عن غيرهم من العالمين. وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب. وما في البحار، من حيوانات، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك، مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها. * (وما تسقط من ورقة) * من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة، إلا يعلمها. * (ولا حبة في ظلمات الأرض) * من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذرو النباتات البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات. * (ولا رطب ولا يابس) * هذا عموم بعد خصوص * (إلا في كتاب مبين) * وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها. وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء. فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها. وأن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته، لم يكن لهم قدرة، ولا وسع في ذلك. فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد المحيط. وجل من إله، لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده. فهذه الآية، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط، بجميع الحوادث. * (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون * وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين * قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من ه ذه لنكونن من الشاكرين) * هذا كله، تقرير لإلهيته، واحتجاج على المشركين به، وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم، والإجلال والإكرام. فأخبر أنه وحده، المتفرد بتدبير عباده، في يقظتهم ومنامهم، وأنه يتوفاهم بالليل، وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم. ويبعثهم في اليقظة من نومهم، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية. وهو تعالى يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال. ثم لا يزال تعالى هكذا، يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم. فيقضي بهذا التدبير، أجل مسمى، وهو: أجل الحياة، وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت، ولهذا قال: * (ثم إليه مرجعكم) * لا إلى غيره * (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) * من خير وشر. * (وهو) * تعالى * (القاهر فوق عباده) * ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة. فليسوا يملكون من الأمر شيئا، ولا يتحركون، ولا يسكنون إلا بإذنه. ومع ذلك، فقد وكل بالعباد، حفظة من الملائكة، يحفظون عليه ما عمل كما قال تعالى: * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) *. * (عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. فهذا حفظه لهم في حال الحياة. * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * أي: الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. * (وهم لا يفرطون) * في ذلك، فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه، ولا ينقصون، ولا ينفذون من ذلك، إلا بحسب المراسيم الإلهية، والتقادير الربانية. * (ثم) * بعد الموت والحياة البرزخية، وما فيها من الخير والشر * (ردوا إلى الله مولاهم الحق) * أي: الذي تولاهم بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير. ثم تولاهم بأمره ونهيه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب. ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على الشرور والسيئات، ولهذا قال: * (ألا له الحكم) * وحده لا شريك له * (وهو أسرع الحاسبين) * لكمال علمه وحفظه لأعمالهم، بما أثبته في اللوح المحفوظ، ثم أثبته ملائكته في الكتاب، الذي بأيديهم. فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وهو القاهر فوق عباده، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء، في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، فأين للمشركين، العدول عن من هذا وصفه ونعته، إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء، ولا عنده مثقال ذرة من النفع، ولا له قدرة وإرادة؟ أما والله لو علموا حلم الله عليهم، وعفوه ورحمته بهم، وهم يبارزونه بالشرك والكفران، ويتجرأون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم
(٢٥٩)