تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٥٨
عند الناس أذلاء. * (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) * أي: كل له حسابه، وله عمله الحسن، وعمله القبيح. * (فتطردهم فتكون من الظالمين) * وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، أشد امتثال. فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين، صبر نفسه معهم، وأحسن معاملتهم، وألان لهم جانبه، وحسن خلقه، وقربهم منه، بل كانوا هم، أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم. وكان سبب نزول هذه الآيات، أن أناسا من قريش، أو من أجلاف العرب، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك، فاطرد فلانا وفلانا، أناسا من فقراء الصحابة، فإنا نستحي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء. فحمله حبه لإسلامهم، واتباعهم له، فحدثته نفسه بذلك، فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها. * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * أي: هذا، من ابتلاء الله لعباده، حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا، وبعضهم شريفا، وبعضهم وضيعا. فإذا من الله بالإيمان على الفقير، أو الوضيع؛ كان محل محنة للغني والشريف. فإن كان قصده الحق واتباعه، آمن وأسلم، ولم يمنعه من ذلك مشاركة الذي يراه دونه، بالغنى أو الشرف. وإن لم يكن صادقا في طلب الحق، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق. وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم: * (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) *. فمنعهم هذا، من اتباع الحق، لعدم ذكائهم. قال الله مجيبا لكلامهم، المتضمن، الاعتراض على الله في هداية هؤلاء، وعدم هداية الله إياهم. * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * الذين يعرفون النعمة، ويقرون بها، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح، فيضع فضله ومنته عليهم، دون من ليس بشاكر. فإن الله تعالى حكيم، لا يضع فضله، عند من ليس له أهل. وهؤلاء، المعترضون بهذا الوصف بخلاف من من الله عليهم، بالإيمان، من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون. ولما نهى الله رسوله، عن طرد المؤمنين القانتين، أمره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام، والتبجيل والاحترام، فقال: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) * أي: وإذا جاءك المؤمنون، فحيهم، ورحب بهم ولقهم منك تحية وسلاما، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم، من رحمة الله، وسعة جوده وإحسانه، وحثهم على كل سبب وطريق، يوصل لذلك. ورهبهم من الإقامة على الذنوب، وأمرهم بالتوبة من المعاصي، لينالوا مغفرة ربهم وجوده. ولهذا قال: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح) * أي: فلا بد مع ترك الذنوب، والإقلاع، والندم عليها، من إصلاح العمل، وأداء ما أوجب الله، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة. فإذا وجد ذلك كله * (فإنه غفور رحيم) * أي: صب عليهم من مغفرته ورحمته، بحسب ما قاموا به، بما أمرهم به. * (وكذلك نفصل الآيات) * أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه. * (ولتستبين سبيل المجرمين) * الموصلة إلى سخط الله وعذابه. فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها. بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل. * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين) * يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (قل) * لهؤلاء المشركين الذين يدعون مع الله آلهة أخرى. * (إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * من الأنداد والأوثان، التي لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فإن هذا باطل، وليس لكم فيه حجة ولا شبهة، إلا اتباع الهوى الذي اتباعه أعظم الضلال. ولهذا قال: * (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا) * أي: إن اتبعت أهواءكم * (وما أنا من المهتدين) * بوجه من الوجوه. وأما ما أنا عليه، من توحيد الله، وإخلاص العمل له، فإنه هو الحق الذي تقوم عليه البراهين والأدلة القاطعة. وأما * (إني على بينة من ربي) * أي: على يقين مبين، بصحته، وبطلان ما عداه. وهذه شهادة من الرسول جازمة، لا تقبل التردد، وهو أعدل الشهود على الإطلاق. فصدق بها المؤمنون، وتبين لهم من صحتها وصدقها، بحسب ما من الله به عليهم. * (و) * لكنكم أيها المشركون * (كذبتم به) * وهو لا يستحق هذا منكم، ولا يليق به إلا التصديق. وإذا استمررتم على تكذيبكم، فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم، إذا شاء، وكيف شاء. وإن استعجلتم به، فليس بيدي من الأمر شيء * (إن الحكم إلا لله) *. فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر ونهى، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب، بحسب ما تقتضيه حكمته. فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع، وقد أوضح السبيل، وقص على عباده
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»