تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٢٦٩
مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها. ولكن لما كان هذا السب، طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم، عن كل غيب، وآفة، وسب، وقدح نهى الله عن سب آلهة المشركين، لأنهم يتحمسون لدينهم، ويتعصبون له. لأن كل أمة، زين الله لهم عملهم، فرأوه حسنا، وذبوا عنه، ودافعوا بكل طريق. حتى إنهم، يسبون الله، رب العالمين، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار، إذا سب المسلمون آلهتهم. ولكن الخلق كلهم، مرجعهم ومآلهم، إلى الله يوم القيامة، يعرضون عليه، وتعرض أعمالهم، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر. وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهي أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة، تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنهآ إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ول كن أكثرهم يجهلون) * أي وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. * (بالله جهد أيمانهم) * أي: قسما اجتهدوا فيه، وأكدوه. * (لئن جاءتهم آية) * تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم * (ليؤمنن بها) *. وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصدهم فيه، الرشاد. وإنما قصدهم، رفع الاعتراض، ورد ما جاء به الرسل قطعا. فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم، بالآيات البينات، والأدلة الواضحات التي عند الالتفات إليها لا تبقى أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به. فطلبهم بعد ذلك للآيات، من باب التعنت، الذي لا يلزم إجابته، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم. فإن الله، جرت سنته في عباده، أن المقترحين للآيات على رسلهم، إذا جاءتهم، فلم يؤمنوا بها أنه يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: * (قل إنما الآيات عند الله) * أي: هو الذي يرسلها إذا شاء، ويمنعها إذا شاء، ليس لي من الأمر شيء. فطلبكم مني الآيات، ظلم، وطلب لما لا أملك، وإنما توجهون إلى توضيح ما جئتكم به، وتصديقه، وقد حصل. ومع ذلك، فليس معلوما، أنهم إذا جاءتهم الآيات، يؤمنون ويصدقون، بل الغالب، ممن هذه حاله، أنه لا يؤمن، ولهذا قال: * (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) *. * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم. وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب، فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق، فلم يسلكوا. فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم. وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم، ومشيئتهم وحدهم، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط. فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة، من تنزيل الملائكة إليهم، يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى، وبعثهم بعد موتهم، * (وحشرنا عليهم كل شيء) * حتى يكلمهم * (قبلا) * ومشاهدة، ومباشرة، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل لهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن أكثرهم يجهلون. فلذلك رتبوا إيمانهم، على مجرد إتيان الآيات. وإنما العقل والعلم، أن يكون العبد مقصوده، اتباع الحق، ويطلبه بالطرق التي بينها الله، ويعمل بذلك، ويستعين ربه في اتباعه، ولا يتكل على نفسه، وحوله وقوته، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية، ما لا فائدة فيها. * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) * يقول تعالى مسليا الرسول صلى الله عليه وسلم وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك، ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق، أعداء، من شياطين الإنس والجن، يقومون بضد ما جاءت به الرسل. * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * أي: يزين بعضهم لبعض، الأمر الذي يدعون إليه، من الباطل، ويزخرفون له العبارات، حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني. بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة، فيعتقدون الحق
(٢٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 274 ... » »»