مغرقون ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها وملكت من غرر المزايا ناصيتها وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب ونفوض الأمر إلى تأمل أولى الألباب والله عنده علم الكتاب «ونادى نوح ربه» أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى «فقال رب إن ابني من أهلي» وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن الأمر بحملهم في الفلك أو النداء على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال «وإن وعدك الحق» أي وعدك ذلك أو إن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا «وأنت أحكم الحاكمين» لأنك أعلمهم وأعدلهم أو أنت أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاء أيوب عليه الصلاة والسلام إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين «قال يا نوح» لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم بقوله تعالى «إنه ليس من أهلك» أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله تعالى «إنه عمل غير صالح» أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة كما في قول الخنساء فإنما هي إقبال وإدبار وإيثار غير صالح على فاسد إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هي لصلاحه وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمل غير صالح أي عملا غير صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنيا على ما ذكر من اعتقاد كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ذلك اندارجا أوليا فقيل «فلا تسألني» أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني «ما ليس لك به علم» أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريح في أن نداءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وعلا ليس استفسارا عن سبب عدم إنجاء ابنه مع سبق وعده بإنجاء أهله وهو
(٢١٢)