فكأنه قيل: لا تعجب لتباين هؤلاء، هذا خليل الله، وهذا حبيب الله، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى، ولذلك ختمها بقوله: إن الله بكل شيء عليم، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء. فالمعنى: وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي: يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم، فحنيئذ يدوم إضلالهم. ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد، وما هيىء له في سابق الأزل، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السماوات والأرض، فيتصرف في عباده بما شاء، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي: الإيجاد والإعدام. وتفسير الطبري هنا قوله: يحيي ويميت، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر، ولا يهابوا أحدا فإن الموت المخوف، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولا صحيحا. وتقدم شرح قوله: * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * في البقرة.
* (لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق) *: لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه.
قال ابن عطية: التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه، وقد يكون في الأكثر رجوعا عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد يكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها. وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم)، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا. وقال الزمخشري: تاب الله على النبي كقوله تعالى: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * * (واستغفر لذنبك) * وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة الفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى، وأن صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * انتهى. وقيل: لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في قبول التوبة. اتبعوه: أي اتبعوا أمره، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي: في وقت العسرة، والتباعة مستعارة للزمان المطلق، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم. قال:
* غداة طفت علماء بكر بن وائل * سقط: وقال آخر)