تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٩٩
كلما قدم من سفر، فرآهم موثقين فسأل عنهم: فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي يحلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين) فنزلت، فأطلقهم وعذرهم. وقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم) يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم، وربط نفسه في سارية في المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه. والاعتراف: الإقرار بالذنب عملا صالحا توبة وندما، وآخر سيئا. أي تخلفا عن هذه الغزاة قاله: الطبري، أو خروجا إلى الجهاد قبل. وتخلفا عن هذه قاله: الحسن وغيره. أو توبة وإثما قاله: الكلبي. وعطف أحدهما على الآخر دليل على أن كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، كقولك: خلطت الماء واللبن، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن، فليس فيه إلا أن الماء خلط باللبن، قال معناه الزمخشري: ومتى خلطت شيئا بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به، من حيث مدلولية الخلط، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، بمعنى شاة بدرهم.
والاعتراف بالذنب دليل على التوبة، فلذلك قيل: عسى الله أن يتوب عليهم. قال ابن عباس: عسى من الله واجب انتهى. وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق، فأبرزت التوبة في صورته، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك، صفة الغفران والرحمة. وهذه الآية وإن نزلت في ناس. مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. وقال أبو عثمان: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: وآخرون عترافوا بذنوبهم. وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي: أن الذين خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا وتابوا رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم) حول إبراهيم، وفي ألوانهم شيء، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه.
* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم) *: الخطاب للرسول، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا) فنزلت. فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله: خذ من أموالهم. والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره: أنها في هؤلاء المتخلفين، وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة. فقوله: على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب. وفي المأخوذ منهم كالعبيد، وصدقة مطلق، فتصدق بأدنى شيء. وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد. وفي قوله: خذ، دليل على أن الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حال من ضمير خذ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالا، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة، وأن يكون استئنافا، وأن يكون ضمير تطهرهم عائدا على صدقة، ويبعد هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضميران، فأما ما حكى مكي من أن تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ، فقدر رد بأن الواو للعطف، فيكون التقدير: صدقة مطهرة ومزكيا بها، وهذا فاسد المعنى، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصح على تقدير مبتدأ محذوف، والواو للحال أي: وأنت تزكيهم، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب. والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال. وقرأ الحسن: تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر. وصل عليهم أي ادع لهم، أو استغفر لهم، أو صل عليهم إذا ماتوا، أقوال.
(٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 ... » »»