تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١١١
عشية قارعنا جذام وحميرا * وآخر:
إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة. والعسرة: الضيق والشدة والعدم، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم): (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قلب الدنانير بيده وقال: (وما على عثمان ما عمل بعد هذا) وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر. وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء، ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرفع يديه يدعو، فما رجعها حتى انسكبت سحابة، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر. وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير، فدعا فيه بالبركة ثم قال: (خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء) وأكل القوم كلهم حتى شبعوا، وفضلت فضلة. وكان الجيش ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم)، وفيها خلف عليا بالمدينة. وقال المنافقون خلفه بغضا له، فأخبره بقولهم فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)؟ ووصل صلى الله عليه وسلم) إلى أوائل بلاد العدو، وبث السرايا، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف.
* (يزيغ قلوب فريق) * قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة. وقيل: زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة، لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر، وبعد الشقة، وقوة العدو المقصود. وقال ابن عباس: تزيغ، تعدل عن الحق في المبايعة. وكاد تدل على القرب، لا على التلبس بالزيغ. وقرأ حمزة وحفص: يزيغ بالياء، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر، لأن النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة: بالتاء، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد، وتزيغ الخبر وسط بينهما، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي: ولا يجوز ذلك في عسى، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار، أي من بعد ما كاد هو أي: الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر
(١١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 ... » »»