تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٠٨
آمنوا.
وقال فضيل بن عطية وغيره: لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، ونزلت الآية وقالت فرقة: نزلت بسبب قوله صلى الله عليه وسلم): * (والله) * وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا، ولو في حال كونهم أولى قربى. فقوله: ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أن ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله. ومعنى من بعد ما تبين أي: وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك، والتبين هو بإخبار الله تعالى * (أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به) * والظاهر أن الاستغفار هنا هو طلب المغفرة، وبه تظافرت أسباب النزول. وقال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة. قالوا: والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه، ومن هذا قول أبي هريرة: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه، قيل له: ولأبيه؟ قال: لا لأن أبي مات كافرا، فإن ورد نص من الله على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص الله عليه وهي حي، أنه من أهل النار. ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم): عن نبي قبله شجه قومه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم) يخبر عنه بأنه قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم. والموعدة التي وعدها إبراهيم أباه هي قوله: * (سأستغفر لك ربي) * وقوله: * (لاستغفرن لك) *. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم، وكان أبوه بقيد الحياة، فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه منه، تبرأ منه وقطع استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم: قراءة الحسن، وحماد الراوية، وابن السميقع، وأبي نهيك، ومعاذ القارئ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.
وقرأ طلحة: وما استغفر إبراهيم، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال. والذي يظهر أن استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا. ألا ترى إلى قوله: * (واغفر لابى إنه كان من الضالين) * وقوله: * (رب اغفر لى ولوالدى) * ويضعف ما قاله ابن جبير: من أن هذا كله يوم القيامة، وذلك أن إبراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله: سأستغفر لك ربي، فقول له: إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء، فيدعه حتى يأتي الصراط، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جير، ولا يظهر ربطه بالآخرة.
قال الزمخشري: (فإن قلت): خفي على إبراهيم عليه السلام أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده. (قلت): يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم): (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم): إن فلانا يستغفر لآبائه المشركين فقال: (ونحن نستغفر لهم) وعن علي رضي الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: فقال: أليس قد استغفر إبراهيم انتهى؟ وقوله: لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة.
والأواه: الدعاء، أو
(١٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 ... » »»