يقاتلون مستأنفا، ذكر أعظم أحوالهم، ونبه على أشرف مقامهم. وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون، في موضع الحال. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، والحرميان، وعاصم: أولا على البناء للفاعل، وثانيا على البناء للمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك، والمعنى واحد، إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل، وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمع له الأمران، وفيهم من لا يقع له واحد منهما، بل تحصل منهم المقاتلة. وقال الزمخشري: يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى: * (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * انتهى. فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالا. وانتصب وعدا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، لأن معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله، والظاهر من قوله: في التوراة والإنجيل والقرآن، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقا بقوله: اشترى. ويحتمل أن يكون متعلقا بتقدير قوله مذكورا، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي: وعدا عليه حقا مذكورا في التوراة، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن. وقيل: الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي: لا أحد، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقا أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به، إذ هو آكد من الوعد. قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى تر غيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، واستعمال قط في غير موضوعة، لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأن في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد، ومحيل على البيع السابق. ثم قال: وذلك هو الفوز العظيم أي: الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.
* (التائبون العابدون الحامدون السائحون الركعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) *: قال ابن عباس: لما نزل أن الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل: يا رسول الله وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر: فنزلت التائبون الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده، وليكونوا على أوفى درجات الكمال. وآية أن الله اشترى مستقلة بنفسها، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم تكن فيه هذه الصفات. والشهادة ماحية لكل ذنب، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه. وقالت فرقة: هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى: * (إن الله اشترى) * الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * ولذلك جاء: * (وبشر المؤمنين) * وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذين بايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى