تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١١٥
الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام. والظمأ العطش.
وقرأ عبيد بتن عمير ظماء بالمد مثل: سفه سفاها، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصا في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولا، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشئ عن العطش والسير، وأتى ثالثا بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر. فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولا فثانيا فثالثا. وموطئا مفعل من وطئ، فاحتمل أن يكون مكانا، واحتمل مصدرا. والفاعل في يغيظ عائد على المصدر، إما على موطىء إن كان مصدرا، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكانا، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار. وأطلق موطئا إذا كان مكانا ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار، سواء كان من أمكنة الكفار، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم. والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل. وقرأ زيد بن علي: يغيظ بضم الياء. والنيل مصدر، فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أن يراد به المنيل. وأطلق نيلا ليعم القليل والكثير مما يسوءهم قتلا وأسرا وغنيمة وهزيمة، وليست الياء في نيل بدلا من واو خلافا لزاعم ذلك، بل نال مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولا ونوالا من العطية، ومنه التناول. والأخرى: هذه من ذوات الياء، نلته ناله نيلا إذا أصابه وأدركه. وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضا وهو الوطء، ثم ثنى بالنيل من العدو. جاء العموم في الكفار بالألف واللام، وفي من عدو لكونه في سياق النفي، وبدىء أولا بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانيا بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام: * (ءاخر) *.
والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي: كتب في الصحائف، أو في اللوح المحفوظ، ليجازي عليه يوم القيامة. ويحتمل أن يكون استعارة، عبر عن الثبوت بالكتابة لأن من أراد أن يثبت شيئا كتبه. والجملة من كتب في موضع الحال، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي: بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل. وفي الحديث: (من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) وقال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. والنفقة الصغيرة قال ابن عباس: كالثمرة ونحوها، والكبيرة ما فوقها. وقال الزمخشري: صغيرة ولو تمرة، ولو علاقة سوط،. ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى. وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله: * (ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة) * * (ولا أصغر من ذالك ولا أكبر) * وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة. ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع، ويجوز أن يعود على قوله: عمل صالح المتقدم الذكر. وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأن، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيها على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين. وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير: أحسن جزاء الذي كانوا يعملون، لأن عملهم له جزاء حسن، وله جزاء أحسن، وهنا الجزاء أحسن جزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان: الأول: أن أحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى. هذا الوجه
(١١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 ... » »»