تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١١٢
وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء، كأنه قال: من بعد ما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علم النحو: من أن خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعا رافعا ضمير اسمها. فبعضهم أطلق، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة، ولا يكون سببا، وذلك بخلاف كان. فإن خبرها يرفع الضمير، والسبي لاسم كاد، فإذا قدرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم كادبل ولا سببا له، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضا. وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان: يقوم زيد، وفيه خلاف، والصحيح المنع. وأما توجيه الآخر فضعيف جدا من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر كاد واقعا سببيا، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة، ومعناها مراد، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكون مثل كان إذا زيدت، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: من بعد ما زاغت، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى: * (لم يكد يراها) * مع تأثيرها للعامل، وعملها هي. فأحرى أن يدعي زيادتها، وهي ليست عاملة ولا معمولة.
وقرأ الأعمش والجحدري: تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي: من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم، الضمير في عليهم عائد على الأولين، أو على الفريق فالجملة كررت تأكيدا. أو يراد بالأول إنشاء التوبة، وبالثاني استدامتها. أو لأنه لما ذكر أن فريقا منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانيا رفعا لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم. والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله: قتادة. أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوما ثم قبل توبتهم. وقد رد تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال: معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر، وليس بتخلفنا عن الغزو. وقرأ الجمهور: خلفوا بتشديد اللام مبنيا للمفعول. وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، وذر ابن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القاري، وحميد: بتخفيف اللام مبنيا للفاعل، ورويت عن أبي عمرو أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق: خالفوا بألف أي: لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر: ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين. وضاقت عليهم أنفسهم استعارة، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وخرجت عن فرط الوحشة والغم، وظنوا أي: علموا. قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: أيقنوا، كما قالوا في قول الشاعر:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج * سراتهم في الفارسي المسرد * وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة. وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب، فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم، ونبوة الناس عن كلامهم. وثانيا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم، والغم على قلوبهم، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولا ضيق المحل، ثم ثانيا ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة.
(١١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 ... » »»