تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٣٦
على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه، حيث نسبوا الموجد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده، ونسبوا العكس إلى أنفسهم، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له، وحيث نسبوا إلى الله ما نسبوا، أكدوا الجملة بأن على سبيل المبالغة. وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد، كأن الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع، فيحتاج إلى أن يؤكد.
* (سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة، قال ذلك كثير من العلماء. وأنها تكتب الأعمال في صحف، وأن تلك الصحف هي التي توزن، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر. وقيل: سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه صلى الله عليه وسلم). وذهب قوم: إلى أن الكتابة مجاز ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله شيئا محفوظا لا ينسى، كما يثبت المكتوب. وذهب إلى أن معنى سنكتب: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله: * (كتب عليكم الصيام) * وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي، لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه. وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى. ونسب إليهم قتلهم الأنبياء، وإن كان من فعل آبائهم، لما كانوا راضين به. وقد سموا أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهموا بقتله، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم. إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في الله تعالى، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء الله تعالى، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما يسببان في استحقاق العقاب. ولما كان الصادر منهم قولا وفعلا ناسب أن يكون الجزاء قولا وفعلا، فتضمن القول والفعل قوله تعالى: ونقول ذوقوا عذاب الحريق. وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام، ويقال للمنتقم منه: أحس وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي: ذق عقق، واستعير لمباشرة العذاب الذوق، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة، وحاستها متميزة جدا. والحريق: المحرق فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم. وقيل: الحريق طبقة من طباق جهنم. وقيل: الحريق الملتهب من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة، والملتهبة أشدها. والظاهر أن هذا القول يكون عند دخولهم جهنم. وقيل: قد يكون عند الحساب، أو عند الموت. وأن وما بعدها محكى بقالوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون محكيا بالمصدر، فيكون من باب الأعمال. قال: وإعمال الأول أصل ضعيف، ويزداد ضعفا لأن الثاني فعل والأول مصدر، وإعمال الفعل أقوى. والظاهر أن ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي، وأجيز أن تكون مصدرية.
وقرأ الجمهور: سنكتب وقتلهم بالنصب. ونقول: بنون المتكلم المعظم. أو تكون للملائكة. وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة: سيكتب بالياء مبنيا للمفعول، وقتلهم بالرفع عطفا على ما، إذ هي مرفوعة بسيكتب، ويقول بالياء على الغيبة. وقرأ طلحة بن مصرف: سنكتب ما يقولون. وحكى الداني عنه: ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا. ونقلوا عن أبي معاذ النحوي أن في حرف ابن مسعود سنكتب ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.
* (ذالك بما قدمت أيديكم) * الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال، فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول، وبخوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب. ويحتمل أن يكون خطابا لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) يوم نزل الآية، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول.
* (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * هذا معطوف على قوله: بما قدمت أيديكم، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم، وعدل الله تعالى
(١٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 ... » »»