وقدر * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * لما قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك، أخبر أنه لا يطلع أحدا من المخاطبين على الغيب.
* (ولكن الله يجتبى) * أي: يختار ويصطفي * (من رسله من يشاء) * فيطلعه على ما شاء من المغيبات. فوقوع لكن هنا لكون ما بعدها ضدا لما قبلها في المعنى. إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه، فيخبر بأن في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات. قال السدي وغيره: ليطلعكم على الغيب، فيمن يؤمن، ومن يبقى كافرا، ولكن هذا رسول مجتبي. وقال مجاهد وابن جريج وغيره: هي في أمر أحد أي: ليطلعكم على أنكم تهزمون، أو تكفون عن القتال. وقيل: ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم، وتسمية بأعيانهم، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم. والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس. وقال الزجاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت. وقيل: قالوا: لم لم يوح إلينا في أمر محمد؟ فنزلت. وقيل: قالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا فهلا كان الوحي إلينا، فنزلت. وقيل: كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأنزلها الله بعد بعثته. ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولا فيوحي إليه، أي: ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء. وظاهر الآية هو ما قدمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي الله. وهذا معنى ما روي أيضا عن السدي أنه قال: حكم بأنه يظهر هذا التمييز. ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون: إن فلانا منافق، وفلانا مؤمن. بل سنة الله تعالى جارية بأن لا يطلع عوام الناس، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان. فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء، ولهذا قال تعالى: ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق. وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأن هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم. أي: ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام.
* (ما كان الله) * لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات، أمر بالتصديق بالمجتبى، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى الله عليه وسلم)، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات، وأخباره لكم بها في غير ما موطن. وجمع في قوله ورسله تنبيها على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة، وهو ظهور المعجز على أيديهم. قال الزمخشري في قوله تعالى: فآمنوا بالله ورسله، بأن تقدروه حق قدره، وتعلمونه وحده مطلعا على الغيوب، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين لا