فيكم. وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير، وهذا تكثير بسبب المتعلق. وذهب بعضهم إلى أن فعالا قد يجيء لا يراد به الكثرة، كقول طرفة:
* ولست بحلال التلاع مخافة * ولكن متى يسترقد القوم أرفد * لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلا، لأن عجز البيت يدفعه، فدل على نفي البخل في كل حال، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة، وقيل: إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.
وقال القاضي: العذاب الذي توعد أن يفعله بهم: لو كان ظالما لكان عظيما، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتا والعبيد جمع عبد، كالكليب. وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير، جواز الأخبار عنه أخبار الواحد كأسماء الجموع، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن، كما ناسب ذلك في سورة فصلت، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده. قال ابن عطية: وجمع عبدا في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه. ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فلم عطف قوله: وأن الله ليس بظلام للعبيد، * (على ما * قدمت أيديكم) * وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب؟ (قلت): معنى كونه غير ظلام للعبيد: أنه عادل عليهم، ومن العدل أن يعاقب المسئ منهم ويثب المحسن انتهى. وفيه رائحة الاعتزال.
* (الذين قالوا إن الله عهد إلينا * أن لا * نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) * قال الكعبي: نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن مانوه، وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك. وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة، فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. وقيل: كان أمر القرابين ثابتا، إلى أن نسخت على لسان المسيح. وقيل: ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى، وافترائهم عليه، وعلى أنبيائه.
ومعنى عهد: وصي، والعهد أخص من الأمر، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتقدم تفسيره. وتعدى نؤمن باللام كما في قوله: * (فما ءامن لموسى) * يؤمن لله. والقربان: ما يتقرب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن، وكان حكمه قديما في الأنبياء. ألا ترى إلى قصة ابني آدم، وكان أكل النار ذلك القربان دليلا على قبول العمل من صدقة أو عمل، أو صدق مقالة. وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول، وكانت النار أيضا تنزل للغنائم فتحرقها. وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به، فهو وسائر المعجزات سواء. ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز. وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا.
والذين قالوا صفة للذين قالوا. وقال الزجاج: الذين صفة للعبيد. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى. وهو كما قال. وجوزوا قطعة للرفع، والنصب