تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٣٨
واتباعه بدلا. وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر، فحذف وبقي على الخلاف فيه: أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولا به على تضمين عهد معنى الزم، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقرأ عيسى بن عمر بقربان بضم الراء. قال ابن عطية: اتباعا لضمة القاف، وليس بلغة. لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الاتباع انتهى. ولم يقل سيبويه: إن ذلك على الاتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان، ولا شيئا من هذا النحو لم يذكره. ولكنه جاء فعلان وهو قليل، قالوا: السلطان وهو اسم انتهى. وقال الشارح: صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل. قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسما: وهو قليل نحو سلطان.
* (قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) * رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره، فلم يؤمنوا بهم، بل قتلوهم. ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل، وهو إتلاف النفس بالقتل. فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه. والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه، كقصة قوم صالح وغيره. وكذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال: * (بل * ادعوهم) * ومعنى: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان، أو صادقين في أن الله عهد إليكم.
* (صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) * الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت، ولم يجبهم الله لذلك، فسلى الرسول صلى الله عليه وسلم) بأن هذا دأبهم، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه.
والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب سمي بذلك قيل: لأنه مكتوب، إذ يقال: زبره كتبه. أو لكونه زاجرا من زبره زجره، وبه سمي كتاب داود زبورا لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ، أو لأحكامه. والزبر: الأحكام. وقال الزجاج: الزبور كل كتاب فيه حكمة. قيل: والكتاب هو الزبر. وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد، أو لاختلاف معنييهما، مع أن المراد واحد، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة. وقيل: الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما، ويحتمل أن يراد بقوله: والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب. أي: جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة.
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير: وإن يكذبوك فتسل به. ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل، وما يوجد في كلام المعربين أن مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة. وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم، بل نبه على أن من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء، فكان المعنى: فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل. قيل: ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم. ومن قبلك: متعلق بكذب، والجملة من قوله: جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى. والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية، أي: جاؤوا أممهم مصحوبين بالبينات، أو جاؤوا البينات. وقرأ الجمهور: والزبر. وقرأ ابن عامر: وبالزبر، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم. وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب. وقرأ الجمهور: والكتاب. وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد. وكان ذكر الكتاب مفردا وإن كان مجموعا من حيث المعنى لتناسب الفواصل، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك.
* (كل نفس ذائقة الموت) * تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الدنيا وأهلها، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره. ولما تقدم ذكر
(١٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 ... » »»