تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٣٣
يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى.
* (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان، والمعنى: الإيمان السابق، وهو الإيمان بالله ورسله، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل: فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله.
* (ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم) * قال السدي وجماعة: نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله. وقال ابن عباس في رواية عطية، ومجاهد وابن جريج وجماعة، واختاره الزجاج: في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله: ابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد. وقيل: في النفقة على العيال وذوي الأرحام.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرأ حمزة تحسين بالتاء، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن، وهو على حذف مضاف أي: بخل الذين. وقرأ باقي السبعة بالياء. فإن كان الفعل مسندا إلى الضمير، فيكون المفعول الأول محذوفا تقديره: بخلهم، وحذف لدلالة يبخلون عليه. وحذفه كما قلنا: عزيز جدا عند الجمهور، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف، وهو فصل. وقرأ الأعمش بإسقاط هو، وخيرا هو المفعول بتحسبن. قال ابن عطية: ودل قوله: يبخلون على هذا البخل المقدر، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر:
* إذا نهى السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف * والمعنى: جرى إلى السفه انتهى. وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين: أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل، وفي البيت هو اسم الفاعل، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إن وجد. والثاني أن في الآية حذفا لظاهر، إذ قدروا المحذوف بخلهم، وأما في البيت فهو إضمار، لا حذف. ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسندا للذين، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين، ويبخلون يطلب مفعولا بحرف جر، فقوله: ما آتاهم يطلبه يحسبن، على أن يكون المفعول الأول، ويكون هو فصلا، وخيرا المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون. فعدى بحرف الجر واحد معموله، وحذف معمول تحسين الأول، وبقي معموله الثاني، لأنه لم يتنازع فيه، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول. وساغ حذفه وحده، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو فلت: زيد منطلق، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق، وفي الآية: لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد، وتقدير المعنى: ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلا لما آتاهم المحذوف، لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 ... » »»