تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٣٠
مناسبة تقتضي ختم الآية بها. أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعارا بخساسة ما سابقوا فيه. وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب، كما يجده المشتري المغبون في تجارته. وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سببا للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم. وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة. * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * الخطاب في أنتم للمؤمنين، والمعنى: على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين. وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن، ولكنه ميز بعضا من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله: مجاهد، وابن جريج، وابن إسحاق. وقيل: الخطاب للكفار، والمعنى: على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله: قتادة، والسدي. قال السدي وغيره: قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا، وبمن يبقى على كفره، فنزلت. فقيل لهم: لا بد من التمييز. وقال ابن عباس: وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين. وقيل: الخطاب للمؤمنين والكافرين، وهو قريب مما قاله الزمخشري: غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال: (فإن قلت): لمن الخطاب في أنتم؟ (قلت): للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم، لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بأخباره بأحوالكم. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم، وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به انتهى. ومعنى هذا القول لابن كيسان. قال ابن كيسان: المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته.
وقيل: المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم. وقيل: كانوا يستهزؤن بالمؤمنين سرا فقال: لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم، لا في دار واحدة، ولكن يجعل لهم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث في النار، والطيب في يالجنة. والخبيث الكافر، والطيب المؤمن، وتمييزه بالهجرة والجهاد. وقال مجاهد: الطيب المؤمن، والخبيث المنافق، ميز بينهما يوم أحد. وقيل: الخببث الكافر، والطيب المؤمن، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر. وقيل: تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا. وقيل: الخبيث العاصي، والطيب المطيع، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن
(١٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 ... » »»