تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٤٤
القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلا من الأول، وقد تعدى إلى المفعولين وهما: الضمير وبمفازة، واستغنى بذلك عن المفعولين، كما استغنى في قوله:
* بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب * أي: وتحسب حبهم عارا علي. والوجه الثاني ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون المفعول الأول محذوفا على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين. وفلا يحسبنهم تأكيد، وتقدم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما) * وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك. وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين: المرفوع والمنصوب، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها، ومن غيرها: وجدت، وفقدت، وعدمت، وذلك مقرر في علم النحو.
وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: لا تحسبن، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما خطابا للرسول، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما ذكره ابن عطية، وهو أن المفعول الأول هو: الذين يفرحون. والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفا في المفعولين. وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام، وهي عادة العرب، وذلك تقريب لذهن المخاطب. والوجه الثاني ذكره الزمخشري، قال: وأحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني بمفازة. وقوله: فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم، فلا يحسبنهم فائزين. وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطابا للمؤمنين. ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: لا يحسبن بياء الغيبة، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما. ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل. وإذا كان فلا يحسبنهم توكيدا أو بدلا، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة، إذ لا يصح أن تكون للعطف، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء. وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر:
* حتى تركت العائدات يعدنه * يقلن فلا تبعد وقلت له: ابعد * وقال آخر:
* لما اتقى بيد عظيم جرمها * فتركت ضاحي: كفه يتذبذب * أي: لا تبعد، وأي تركت. وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى: أعطوا. وقرأ ابن جبير والسلمي: بما أوتوا مبنيا للمفعول. وتقدمت الأقوال في أتوا، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين.
وفي حرف عبد الله بما لم يفعلوا بمفازة، وأسقط فلا يحسبنهم. ومفازة مفعلة من فاز، وهي للمكان أي: موضع فوز، أي: نجاة. وقال الفراء: أي يبعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه. وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما
(١٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 ... » »»