تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ١٢٩
الزجاج: هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا، وليست في كل كافر، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان، فيكون أحسن له. وقال مكي: هذا هو الصحيح من المعاني. وقال ابن عطية: معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده. وأخبر الله تعالى أن ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام. قال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله. وقرأ: * (وما عند الله خير للابرار) * وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما، وقرأ هذه الآية انتهى.
وقال الزمخشري: والإملاء لهم تحليتهم، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم، والمعنى: أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم، إنما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. (فإن قلت): كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ (قلت): هو علة الإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب. فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء، وسببا فيه. (فإن قلت): كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ (قلت): لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه. وكله جار على طريقة المعتزلة. وقال الماتريدي: المعتزلة تناولوها على وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير. أي: ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثما، إنما نملي لهم خير لأنفسهم. الثاني: أن هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة، بل عاقبة ذلك شر. وفي التأويل إفساد النظم، وفي الثاني تنبيه على من لا يجوز تنبيهه. فإن الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه. وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين. قيل: وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف، ونتبع سنة الإمام في المصاحف. وأما الثانية، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. ولا مصدرية، لأن لازم كي لا يصح وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه. وقيل: اللام في ليزدادوا للصيرورة. * (ولهم عذاب مهين) * هذه الواو في: ولهم، للعطف. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى قوله: ولهم عذاب مهين على هذه القراءة، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية؟ (قلت): معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال. كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين انتهى. والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحدا قرأ الثانية بالفتح إلا هو، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر. ولكن الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه. ولما قرر في هذه القراءة أن المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله: ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية. ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث: بعظيم، وأليم، ومهين. ولكل من هذه الصفات
(١٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 124 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 ... » »»