تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٢
ليس البر، وما ينبغي أن يكونوا عليه، بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه، ولم يجسر على مثله.
ثم قال: * (وأتوا البيوت من أبوابها) * أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها، ولا تعكسوا، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) *. انتهى كلامه.
وحكى هذا القول مختصرا ابن عطية، فقال: وقال غير أبي عبيدة: ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع، أنه كنى بالبيوت عن النساء الإيواء اليهن كالإيواء إلى البيوت، ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن، وآتوهن من حيث يحل من قبلهن. قاله ابن زيد، وحكاه مكي، والمهدوي عن ابن الأنباري.
وقال ابن عطية: كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام، انتهى.
والباء في: بان تأتوا زائدة في خبر ليس، وبأن تأتوا، خبر ليس، ويتقدر بمصدر، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى، وبالأعرف عما دونه في التعريف، لأن: أن وصلتها، عندهم بمنزلة الضمير.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وقالون، وعباس، عن أبي عمرو؛ والعجلي عن حمزة؛ والشموني عن الأعشى، عن أبي بكر: البيوت، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول، وبه قرأ باقي السبعة و: من، متعلقة: بتأتوا، وهي لابتداء الغاية، والضمير في: أبوابها، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة، لأن البيوت جمع كثرة، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره، والأفصح أن يجمع الضمير.
ولذلك جاء في القرآن: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * ونحوه، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.
* (ولاكن البر من اتقى) * التأويلات التي في قوله: * (ولاكن البر من ءامن) * سائغة هنا، من أنه أطلق البر، وهو المصدر، على من وقع منه على سبيل المبالغة، أو فيه حذف من الأول، أي: ذا البر، ومن الثاني أي: بر من آمن. وتقدم الترجيح في ذلك.
وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عد أوصافا كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف، وقال في آخرها: * (أولئك هم المتقون) * وقال هنا: * (ولاكن البر من اتقى) * والتقوى لا تحصل إلا بحصول تلك الأوصاف، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمنا إذ جاء معها: هو المتقي.
وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيف: ولكن، ورفع: البر، والباقون بالتشديد والنصب.
* (وأتوا البيوت من أبوابها) * تفسيرها: يتفرغ على الأقوال التي تقدمت في قوله: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) *.
* (واتقوا الله) *: أمر باتقاء الله، وتقدمت جملتان خبريتان وهما * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولاكن البر من اتقى) * فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأول، والثانية راجعة للثانية، وهذا من بديع الكلام.
ولما كان ظاهر قوله: من اتقى، محذوف المفعول، نص في قوله: واتقوا الله، على من يتقى، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله.
* (لعلكم تفلحون) * ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة، وهي قوله * (واتقوا الله) * لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فعلق التقوى برجاء الفلاح، وهو الظفر بالبغية.
* (وقاتلوا في سبيل الله) * الآية. قال ابن عباس: نزلت لما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش، ويصدوهم، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت. وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها، لأن ما قبلها متضمن شيئا من متعلقات الحج، ويظهر أيضا أن المناسب هو: أنه لما أمر تعالى بالتقوى، وكان أشد أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله، فأمر به فقال تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله) * والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد
(٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 ... » »»