تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٧١
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم) ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال: إني أحمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (وأنا أحمس). فنزلت. ذكر هذا مختصرا السدي.
وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم) دخل وخلفه رجل من الأنصار، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم): (لم دخلت وأنت قد أحرمت)؟ قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم): (إني أحمس، إني من قوم لا يدينون بذلك). فقال الرجل: وأنا ديني دينك فنزلت.
وقال إبراهيم: كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز، وقيل: كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة، ويبقى كذلك حولا كاملا.
وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية رادا على من جعل إتيان البيوت من ظهورها برا، آمرا بإتيان البيوت من أبوابها، وهذه أسباب تظافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة، وأن الإتيان هو المجيء إليها، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تظافرت من هذه الآسباب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر، فبين لهم أن ذلك ليس من البر، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه، في الحج، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة، وما حكمة ذلك، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم، فأفعاله جارية على الحكمة، رد عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها، إذا أحرموا، ليس من الحكمة في شيء، ولا من البر، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معا، ووصل إحداهما بالأخرى.
وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال.
أحدهما: أن ذلك ضرب، مثل: المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن اتقوا واسألوا العلماء. فهذا كما يقال: أتيت الأمر من بابه، قاله أبو عبيدة.
الثاني: أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا لمخالفة الواجب في الحج، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فضرب مثلا للمخالفة، وقيل: واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم. قاله أبو مسلم.
الثالث: أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى: أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف العمر، صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم ما تظنونه برا، إنما البر أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم، وهو حكمة الخالق على المجهول، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمون، قاله في (ري الظمآن) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، والمعنى
(٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 ... » »»