تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٨
والمشهور عن أبي حنيفة أن أقله ثلاثة أيام، وبه قال الثوري. وقال عطاء والشافعي: يوم وليلة.
وأما أكثره فقال عطاء، والشافعي: خمسة عشر يوما وقال الثوري: عشرة أيام، وهو المشهور عن أصحاب أبي حنيفة. ومذهب مالك في ذلك كقول عطاء، وخرج من قول نافع سبعة عشر يوما، وقيل: ثمانية عشر يوما. وقال القرطبي: روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلا ما يوجد في النساء عادة. وروي عن الشافعي أن ذلك مردود إلى عرف النساء كقول مالك، وروي عن ابن جبير: الحيض إلى ثلاثة عشر، فإذا زاد فهو استحاضة.
وجميع دلائل هذا، وبقية أحكام الحيض مذكور في كتب الفقه.
ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطئ في الحيض، واختلف في ذلك العلماء، فقال أبو حنيفة، ومالك، ويحيى بن سعيد، والشافعي، وداود: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال محمد: يتصدق بنصف دينار، وقال أحمد: يتصدق بدينار أو نصف دينار، واستحسنه الطبري، وهو قول الشافعي ببغداد.
وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فدينار، أو في انقطاعه فنصفه، ونقل هذا القول ابن عطية عن الأوزاعي، ونقل غيره عن الأوزاعي أنه إن وطئ وهي حائض يتصدق بخمسين دينار. وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا كان دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار).
* (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل عنه: يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح، وأصله: يتطهرن، وكذا هي في مصحف أبي، وعبد الله. وقرأ الباقون من السبعة: يطهرن، مضارع. طهر.
وفي مصحف أنس: ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد، ورجح الفارسي: يطهرن، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي. ورجح الطبري التشديد، وقال: هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو. انتهى كلامه.
قيل: وقراءة التشديد معناها حتى يغتسلن، وقراءة التخفيف معناها ينقطع دمهن قاله الزمخشري وغيره:
وفي كتاب ابن عطية: كل واحد من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، قال: وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة تشديد الطاء مضمنها الاغتسال، وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه الإجماع أنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال. انتهى ما في كتاب ابن عطية.
وقوله: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * هو كناية عن الجماع، ومؤكد لقوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) *.
وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسان، ولكن بينت السنة أنه اعتزال وقربان خاص، ومن اختلافهم في أقل الحيض وأكثره يعرف اختلافهم في أقل الطهر و أكثره.
* (فإذا تطهرن) * أي: اغتسلن بالماء، قال ابن عطية: والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم، وقال مجاهد وجماعة هنا: إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد لقرينة الأمر بالإتيان، وإن كان قربهن قبل الغسل مباحا، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل، وإذا كان التطهر الغسل بالماء، فمذهب مالك والشافعي وجماعة، أنه كغسل الجنابة، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن؛ وقال طاووس، ومجاهد: الوضوء كاف في إباحة الوطء، وذهب الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء: هو غسل محل الوطء بالماء، وبه قال ابن حزم.
وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي، فمن حمله على اللغوي قال: تغسل مكان الأذى بالماء، ومن حمله على الشرعي حمله على أخف النوعين، وهو الوضوء، لمراعاة الخفة، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة. والاغتسال بالماء مستلزم
(١٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 173 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 ... » »»