تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٣
ومشقتهم في مخالطتهم، والنظر في أحوالهم وأموالهم.
* (أن الله عزيز حكيم) * قال الزمخشري: عزيز غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم، لكنه حكيم لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم. وقال ابن عطية: عزيز لا يرد أمره، وحكيم أي محكم ما ينفذه. إنتهى.
في وصفه تعالى بالعزة، وهو الغلبة والاستيلاء، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبهم على أنهم لا يقهرونهم، ولا يغالبونهم، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر، فإن هذا الوصف لا يكون إلا لله.
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم، فليس لكم نظر إلا بما أذنت فيه لكم الشريعة، واقتضته الحكمة الإلهية. إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع، فالإصلاح لهم ليس راجعا إلى نظركم، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم.
* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن رواحة، أعتق أمة وتزوجها، وكانت مسلمة، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم، فنزلت. وقال مقاتل: نزلت في أبي مرثد الغنوي، واسمه كناز بن الحصين، وفي قول: إنه مرثد بن أبي مرثد، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوج: عناق، وهي امرأة من قريش ذات حظ من جمال، مشركة، وقال: يا رسول الله إنها تعجبني، وروي هذا السبب أيضا عن ابن عباس بأطول من هذا.
وقيل: نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان، أعتقها وتزوجها، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة. حتى إن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط، ورجح ذلك كما تقدم ذكره، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح، وهي: الأخوة الدينية، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك.
ومناسبة أخرى: أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر، والأكل في الميسر، وذكر حكم المنكح، فكما حرم الخمر من المشروبات، وما يجر إليه الميسر من المأكولات، حرم المشركات من المنكوحات.
وقرأ الجمهور: ولا تنكحوا، بفتح التاء من نكح، وهو يطلق بمعنى العقد، وبمعنى الوطء بملك وغيره؛ وقرأ الأعمش: ولا تنكحوا بضم التاء من انكح، أي: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات. والمشركات هنا: الكفار فتدخل الكتابيات، ومن جعل مع الله إلها آخر وقيل: لا تدخل الكتابيات، والصحيح دخولهن لعبادة اليهود عزيرا، والنصارى عيسى، ولقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * وهذا القول الثاني هو قول جل المفسرين.
وقيل: المراد مشركات العرب، قاله قتادة.
فعلى قول من قال: إنه تدخل فيهن الكتابيات، يحتاج إلى مجوز نكاحهن فروي عن ابن عباس أنه عموم نسخ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات، وروي عن ابن عباس: أن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير دين الإسلام، ونكاحهن حرام.
والآية محكمة على هذا، ناسخة لآية المائدة. وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية، وإن كانت متأخرة في التلاوة، ويؤكد هذا قول ابن عمر في (الموطأ): ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروي أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية، وأن حذيفة نكح نصرانية، وان عمر غضب عليهما غضبا شديدا حتى هم أن يسطو عليهما، وتزوج عثمان نائله بنت الفرافصة، وكانت نصرانية.
ويجوز نكاح الكتابيات، قال جمهور الصحابة والتابعين، عمر، وعثمان، وجابر، وطلحة، وحذيفة، وعطاء، وابن المسيب، والحسن، وطاووس، وابن جبير، والزهري، وبه قال الشافعي: وعامة أهل المدينة والكوفة، قيل: أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات، غير أن مالكا وابن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن.
واختلف في تزويج المجوسيات، وقد تزوج حذيفة بمجوسية، وفي كونهم أهل كتاب خلاف، وروي عن
(١٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 ... » »»